بقلم: د. عبدالعزيز السدحان (السعودية)
لقد تميزت أحكام شريعة الإسلام بشموليتها وصلاحها لكل زمان ومكان مهما تبدلت الأحوال واختلفت الألسنة وتباعدت الأقطار، فكمال الشريعة مما تشهد به العقول ويقطع به ويؤكده توافق الفطر، وكيف لا يكون ذلك وتلك الأحكام والآداب تنزيل من حكيم حميد؟! خلق الخلق وعلم مصالحهم، وخلق الأسباب ورتب عليها المسببات، وجعل أحكام الشريعة وآدابها ميزانا عاما لجميع شؤون الحياة، حيث هذبت عقولهم وأصلحت أبدانهم ورتبت شؤونهم على أحسن وجه وأكمل حال، وصدق الله حيث قال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، فلا إكمال بعد إكمال الله، ولا إتمام بعد إتمام الله.
قال الإمام ابن كثير عند هذه الآية: «هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) أي: صدقا في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي»، ولما كانت أحكام تلك الشريعة صادرة من خالق العباد وفاطرهم قطعت الدلائل والعقول والفطر بصدقها وكمالها، وأن السير في ركابها عين النجاة والسعادة في الدنيا والبرزخ والآخرة، كما أن مخالفتها والحيد عن نصوصها موجب لسلوك أودية الضلال والردى، (تلك حدود الله فلا تعتدوها)، (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)، إن القدح بل مجرد الشك في كمال هذه الشريعة أو الطعن في بعض أحكامها طعن في عقيدة ذلك القادح، وكيف لا يكون ذلك والقادح في حكم من أحكامها لازم قوله الطعن في مشرعها ومنزلها؟!
ومع كثرة النصوص الشرعية التي تحذر من المساس بجناب الشريعة وتنقصها ولو من طرف خفي، مع هذا كله جنحت أفئدة عن الصراط المستقيم واجتالتها الشياطين، فخاضوا ورتعوا وخبّوا ووضعوا في آراء واستحسانات عقلية جابهوا بها أحكام الشريعة وتعاليمها... فنصوص ترد، ونصوص تؤول، ونصوص يستخف بها، وهؤلاء وإن تنوعت مشاربهم إلا أن مآربهم متحدة يجمعها التطاول على أحكام الشريعة والاستخفاف بها.
لقد تطاول نشاز من البشر وأقزام فأطلقوا لأقلامهم العنان في إظهار شبهاتهم وشهواتهم المسمومة، خانوا الله وخانوا أمتهم وخانوا أمانة القلم. أولئك المستهزئون المتنقصون لأحكام الشريعة (يخادعون الله وهو خادعهم)، (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) (ويمكرون ويمكر الله) (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)، ولما كان الاستهزاء من الموبقات المهلكات للعبد كثر التشنيع على من اتصف به، تحذيرا وترهيبا من سلوك طريقه: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)، (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا)، (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)، إلى غير ذلك من الآيات.
ولأجل خطورة الاستهزاء وكثرة النصوص فيه بين العلماء مفهوم تلك النصوص ومؤداها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، يكفر به صاحبه بعد إيمانه»، وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: «من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحا أو جادا، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه»، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين»».، ولما عدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى نواقض الإسلام ذكر منها: «الاستهزاء بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ثوابه، أو عقابه».
وإن من الطرق التي سلكها بعض النشاز من أولئك المستهزئين تلك الرسوم الساخرة الفاجرة في مقصدها فبعضهم رسم ديكا تتبعه أربع دجاجات، بقصد التهكم من تعدد الزوجات وبعضهم يصور المرأة المحتشمة المتحجبة بأنها خيمة سوداء تمشي بين الناس ورسم يسخر من ضوابط الشرع على حفظ المرأة وأن الحيوان أكثر حرية من تلك المرأة التي أثقلتها قيود الشرع كما زعموا.
ومن أساليب الاستهزاء والسخرية أيضا تنقص أهل الخير والصلاح، وكذا تنقص المحتسبين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وذلك بمحاكاتهم في لباسهم وهيئتهم، واختلاق الأكاذيب عليهم بقصد إضحاك الناس منهم، وبث الإشاعات المغرضة عن طبيعة عملهم، فأين أولئك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له». أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية بن حيدة رضي الله تعالى عنه، قال الشراح: «كرر قوله «ويل له» إيذانا بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة»، فقبح الله قوما أرادوا بأمتهم شرا وفتنة، (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).