«لقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب.
وكان ادامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم،.. دابته رجلاه، وخادمه يداه».
لا أجد قولا مأثورا عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، أقرب من ذلك ليطلق على هذا الشيخ الزاهد العالم المفكر والمربي والمجاهد.
كانت زوجته تشتكي الى أحد تلامذته المرحوم أبو مصعب الأخ محمد خضير عن رداءة الطعام الذي كان يتقوت به، وعن عباءته المخرمة بسبب عثة الملابس القديمة، لم نزره قط في سكن إلا أشفقنا عليه من ضيقه وبساطته.
عندما داهمه المرض وأصر عليه نوري المالكي للعلاج في لندن على حساب الدولة لأنه ملك الأمة وليس ملك نفسه، كان يتحين الفرص التي يرى لا ضرورة للمبيت في المستشفى، ليبيت في أحد المراكز الإسلامية هناك تخفيفا للتكلفة المالية.
تجول في أنحاء المعمورة في أكثر البلاد وعورة وفقرا يحمل الماء والخبز للأيتام والفقراء والمساكين ويبني لهم الدور والمساكن من زاد وكرم وأمانات المتصدقين والمتصدقات.
كان عابدا تقيا، شاهدته في الحرم النبوي للحج وهو يصلي وقانتا طويلا متهجدا، حتى أعياني الانتظار لأسلم عليه.
عدته في سكنه الصغير المجاور لسكن آية الله السيد السيستاني بالنجف الأشرف، تحدثت معه كتلميذ مع أستاذه فلما ذكر الله فاضت عيونه بالدموع.
كان قياديا في العمل الدعوي الإسلامي، ومجاهدا ضد صدام وزمرته المجرمة وكان في قائمة الملاحقين.
علم في أحد المرات ان اسمه غير مسجل في قائمة الممنوعين من الدخول لدى إحدى الدول الاستكبارية، فحزن وتألم لأن ذلك مؤشر لأنه مرضي عنه.
أول سقوط الطاغیة عرضت عليه مناصب سياسية عليا نظرا لتاريخ جهاده الطويل، فرفضها.
وما كان منه إلا أن سلم جامعة المصطفى التي أسسها بنفسه، إلى مسؤولين آخرين وذهب هو إلى النجف.
وبدا بإنشاء دور رعاية عشرات آلاف الأيتام، وقام بتوزيع المليارات التي تصله إليهم.. بينما عاش هو عيشة أشد الناس فقرا.
لكن عندما نشب الخلاف المؤسف بين الدعاة، آثر أن ينسحب إشفاقا ومحبة لاخوة دربه، وأن يتفرغ لأعمال الخير الأخرى، لكنه لم يعتزل السياسة لأنه دائما يعيش آلام الأمة واحتياجاتها، فلا يستطيع الصبر تجاه الأحداث ومعضلات الناس في العالم إلا وكتب بيانا أو رسالة أو كتابا، يشخص الحدث ويضع الرؤية الصائبة ويدعو إليها، حتى بلغت مؤلفاته العشرات. عدا بحوثه الحوزوية فهو أستاذ قبل أن يكون مجتهدا فقيها.
كان يقدس الوقت، حتى انتظار المطار كان يستثمره في الكتابة المثمرة على أقرب ورقة مهملة.
عرفناه إماما وأستاذا وأبا روحيا في مسجد النقي بالدسمة أيام السبعينيات، أذكره تماما عندما كنا في استقباله بمطار الكويت القديم وهو ينزل من سلم الطائرة يحمل إحدى بناته ومعه رفيقة دربه أم ابتهال، رحمها الله تعالى، شعرت وقتها وكأنه جاء ليحمل على كاهله مسؤولية العمل التربوي والتبليغي من بعد أخيه الشيخ علي الكوراني، حفظه الله.
مازلت افتخر بهديته لي في يوم زواجي قرآنا كريما ونسخة من كتاب نهج البلاغة، في رسالة بليغة أن الحياة لا تستقيم إلا بالثقلين: كتاب الله والعترة النبوية الشريفة.
والتي كانت آخر وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أكرر وآله) في خطبة الوداع.
ولهذا كان آية الله المجاهد الشيخ محمد مهدي الآصفي يجد ويكدح ليلا ونهارا حتى كان موعده مع القدر فجر اليوم ليقول له كفيت ووفيت، وحان الوقت لترتاح من هم الدنيا وشقائها.
فمضى إلى سبيل ربه راضيا مرضيا ان شاء الله تعالى.
رحمك الله استأذنا الشيخ الآصفي، وأسكن روعتك وجمعك الله تعالى مع من كنت تحب وتتولى من النبي وآله والأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وعزاؤنا الحار إلى تلاميذه ومحبيه وذويه.. ألهمنا الله جميعا جميل الصبر وحسن العزاء.
[email protected]