وقف الراهب البوذي نتشيرين المشهور في اليابان حينها في إحدى القرى المغمورة، أمام أحد القبور وأشعل النار ليجلب أرواح الأجداد، ليسألهم عن صاحب القبر الذي جرت عليه الشائعات، فكانت إجابة الأرواح صادمة، فقالت: إن القبر هو للمسيح عليه السلام وأن اسم زوجته هو ميكو وإنه أنجب منها ثلاثة أبناء، وأحفادهم يدعون بعائلة ساواجوتشي، وعند البحث عن هذه العائلة اتضح أن شعائر العائلة عبارة عن وردة لها 5 أوراق قريبة الشكل من نجمة داوود السداسية، وأن لهذه العائلة إرثا يقول إنهم إحدى سلالات اليهودية العشرة التي اختفت، ولديهم موروث برسم الصليب بالفحم على رؤوس أطفالهم حتى يحافظ على صحتهم، والدلالات التي تشير على أنه قبر المسيح كثيرة منها أن وجدوا مكتوب على القبر أن «هذا قبر المسيح آلهة السعادة...»، وهناك الكثير من السرديات اليابانية التي تقول إن المسيح بعدما قام من الموت بعد 3 أيام ترك فلسطين وذهب للعيش في اليابان، علماء الآثار اهتموا بهذا المكان سواء من اليابانيين أو من الغرب، وأكدوا بطلان هذه الادعاءات اليابانية رغم كثرة الأدلة عليها.
قد يستغرب غير العارف بالثقافة اليابانية هذه القصة، لكن عندما يعرف أن اليابانيين دائما ما يستوردون الأفكار من كل العالم، ثم يندمجون مع هذه الأفكار حتى تصبح جزءا منهم، وبعدها يحاولون جعلها يابانية، ومن ثم يعيدون تصديرها إلى العالم بإطار جديد أكثر جمالا وروعة، هذا هو السر الياباني في (التغيير البسيط المستمر) حتى يصبح الشكل غير الشكل إنما الفكرة واحدة، قد يكون المثال الذي ذكرت متطرفا قليلا بالنسبة لاستيراد الأفكار، لكن الهدف منه، توصيل فكرة مدى اندماج اليابانيين مع الأفكار المستوردة، صحيح أن لليابان تاريخا مع الديانة المسيحية، لكنه ليس بهذا العمق مقارنة مع المناطق الأخرى، ولا يوجد عدد كبير من المؤمنين بها، رغم ذلك هؤلاء القلة البسيطة من الشعب الياباني المؤمن بها، اندمجوا مع الفكرة لدرجة ادعائهم بأن المسيح تزوج يابانية وأنجب منها 3 أبناء، وأن هناك عوائل يابانية يرجع أصلها للمسيح.
لو بحثنا في أصل الكثير من الأشياء التي نعتقد أنها من صلب الثقافة اليابانية نكتشف أنها مستوردة من ثقافات مختلفة خصوصا الصين التي كانت الأم الحاضنة لهذه الأفكار، والأمثلة كثيرة منها فن تقزيم الأشجار الذي يدعى البونساي، والخط الياباني كذلك، بل حتى الفخاريات والأواني اليابانية والرموز التي يكتبون فيها لغتهم، والكثير من الأمثال والمقولات كلها منتجات صينية المصدر، لكنها ذهبت لليابان وتم تطويرها ودمجها مع الثقافة وأصبحت تعرف في العالم بأنها منتجات يابانية.
يُعاب على الثقافة اليابانية هذا الشيء، لكن في الواقع هو سر قوتها، بقابليتها للتأقلم مع متقلبات العصر وأفكاره والتفاعل معه دون أي تصادم يذكر، ويثبت التاريخ الياباني ذلك في العديد من الحوادث، كتحول اليابان من دولة ضعيفة معزولة قابلة للاستعمار من الغرب إلى دولة تستعمر الدول التي حولها، وتم ذلك عن طريق استيراد الأفكار العسكرية والتكنولوجية والتنظيمية من الغرب ومصارعته بها، وبعد خسارة الحرب العالمية الثانية استطاعت الثقافة اليابانية أن تندمج مع الأميركية رغم العداوة وأعداد القتلى من الجانب الياباني والقنابل النووية، ونتيجة لهذا الاندماج أصبحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم.
هذه السيولة الثقافية تحتاج اليها كل ثقافة ترغب في الاستمرار والتجدد، فكل ثقافة تحمل في طياتها بذور استمرارها واندثارها حسب مدى تقبلها للآخر وتقبل أفكاره وتبنيها أحيانا، خصوصا إذا كان هذا الآخر هو القوة المسيطرة سواء في الإقليم أو العالم، والثقافة الإسلامية في عز ازدهارها مثال جيد لهذه السيولة، فتجد أن الخلافة العباسية طعمت العديد من غير العرب والمسلمين من الذين يحملون أفكارا مخالفة داخل جسدها، والكثير منهم تسلم مناصب عالية جدا، ولكن للأسف تجربة الاستعمار التي مرت بها الشعوب العربية جعلتها ترفض الآخر وتشيطنه، ووضعت الآخرين كلهم في هذه السلة، وكأن العالم ليس لديه عمل إلا المكيدة للعرب، وأخرجنا أنواع مختلفة من نظريات المؤامرات، والكثير من الفتاوى تمنع التعامل والسفر لهم، فبنينا سداً مع الآخر ولسان حالنا يؤيد ما قاله سارتر «الجحيم هو الآخرون».