لا يوجد مجتمع في التاريخ إلا وفيه اختلافات وتباينات في الآراء والأفكار، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فهناك من يقدم مصلحة مجتمعه، وهناك من يقرب النار إلى قرصه، لا يردعهم دين ولا قانون، ونطلق عليهم «أحزابا» أو تيارات أو مجموعات، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ويعمد كل أولئك إلى رضا السلطان - أيا كان - ليستطيع تمرير مشاريعه أو مصالحه، وبالطبع سيكون للسلطان ميول بشرية تجاه أحد هذه التيارات، فيدعم بعضها ويقصي الآخر، وهذا ما سهل العديد من الاختراقات للسلطة عبر التاريخ في كل العالم.
ويعمد السلطان لضمان سيطرته على الجميع، ويكون مركز الولاء الأوحد للجميع، إلى قاعدة «فرق تسد»، فيضرب التيارات ببعضها، وبث الفرقة والفتنة بينها، مع عمل استخباراتي بسيط، ودعم إعلامي منظم، فيستجيب الكل لاشتعال الأهواء وغياب العقل، فيضرب بعضهم بعضا على أمل التفوق والتقرب من السلطان.
وأستطيع أن أقول إن لأي بلد 3 أعمدة، السلطة الحاكمة، والتجار، والشعب بتياراته المتعددة، وعلى مر التاريخ يتحد التجار مع السلطة، وتحييد الشعب، وتفكيك التيارات (فرق تسد)، واستخدامها عند الحاجة. وتختلف درجة ذلك التوافق والتخالف من مجتمع لآخر.
ولو نظرنا حولنا في بيئتنا الإقليمية، لوجدنا أنفسنا نعيش نفس الدائرة، لأننا جزء من هذا العالم المتلاطم، ولكن بأشكال وأساليب مختلفة، وأقل أثرا سلبيا، لطبيعة مجتمعنا الصغير الذي هو أقرب إلى المجتمع العائلي والقبلي، وطبيعة نشأته كونه مجتمعا من عدة تكوينات عرقية وفكرية ومذهبية واجتماعية.
ولصغر هذا المجتمع، لدرجة انتشار التناسب بينه بشكل كبير، وحرص السلطة السياسية منذ القدم على دمج أفراده في كل مكان، ولوجود مساحات مشتركة بين الجميع، والولاء المفرط تجاه الحاكم والأرض، وطيب النفوس والقلوب، ورغبة الأغلبية في التقارب لا التباعد، فقد تقلصت مساحة الفجور في الخصومة.
ولأن الشيطان قد يئس من أن يعبد في جزيرة العرب، فقد كان التحريش بينهم هو السبيل، فيشعل بين الحين والآخر الفتن التي لها أصحاب المصالح وضعاف النفوس.
ومع مرور عشرات السنين من الصراع السياسي - المفتعل - من جهة فرق تسد، كان لا بد للقوى السياسية من وقفة تأمل، ومراجعة ما قامت به طوال السنين الماضية، فليس المطلوب أن يصبح الإسلامي ليبراليا، وأن يضحي الشيعي سنيا، وأن يمسي البدوي حضريا، فلكل واحد حقه في اختيار فكره ودينه ومذهبه، وقد تمادى البعض في اتهام الآخرين، وإقصاء المخالفين لأسباب وهمية غرسها في عقولهم الحرس القديم والمرتزقة، بدفع وتوجيه ممن تعرفون.
نعم.. لقد تخاصمت التيارات كثيرا، وللأسف كانوا أدوات صراع السلطة والتجار، أو ما يسمى صراع بالوكالة، وكان الشعب هو الخاسر، ومن تعرفون هو الكاسب، ولولا أن الحاكم لديه حكمة وبعد نظر، لأكل الكبار الصغار، وما الفساد المستشري وغلاء الأراضي وارتفاع الإيجارات وأسعار السلع الرئيسة والاستحواذ على مقدرات البلاد من كبار المتنفذين إلا دليل يسير على ذلك.
لقد مللنا تلك الخصومات غير المبنية على هدى، سوى إقصاء الآخر تحت قاعدة «إذا خاصم فجر»، ولتكن دعوة لجميع التيارات لمراجعة ما مضى، وإصلاح العلاقات مع الآخرين، فكلنا أخطأنا تقدير الأمور في وقتها، واستعجلنا اتخاذ القرارات السلبية، فكفانا خصومة، ولنقترب من بعضنا بعضا، ولنصلح ما بيننا، فوالله إن الدنيا لا تسوى ذلك كله، ولا نعلم ماذا يجري في قادم الأيام من تقلبات سياسية إقليمية لسنا ببعيدين عنها، وأسأل الله الهداية للجميع.