أصبحت مجتمعاتنا تشهد في الآونة الاخيرة انتشار ظاهرة عقوق الوالدين بكثرة وبصور عديدة ومختلفة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الجهل، فالجهل داء قاتل، والجاهل عدو لنفسه، فإذا جهل المرء عواقب العقوق العاجلة والآجلة، وجهل ثمرات البر العاجلة والآجلة، قاده ذلك إلى العقوق وصرفه عن البر.
فالبر ليس قبلة على رأس أمك وأبيك فتظن أنك بلغت غاية رضاهما، بل البر الحقيقي هو ان تعلم ما يسعدهما فتتسارع إلى فعله، وألا تتلذذ باستفزازهما وتدرك ما يؤلمها فتجتهد ألا يروه منك.
البر الحقيقي ألا تجادلهما حتى لو كنت على حق، مع الدفاع عنهما في كل شيء يضرهما او يزعجهما، والترويح عنهما، والمبالغة في توقيرهما واحترامهما، مع مدحهما وذكر فضلهما، وكذلك السعي الدؤوب لإدخال السرور إلى قلبيهما، ومشاورتهما في بعض الأمور ومشاركتهما بالأحاديث وحسن الاستماع إليهما وعدم تجريحهما، وإعطائهما الاهتمام إذا تكلما، وإشعارهما بالتفاعل بما يناسب كلامهما، إلى غير هذا من وجوه الخير.
هذان، هما والداك، كم آثراك بالشهوات على النفس، ولو غبت عنهما صارا في حبس، حياتهما عندك بقايا شمس، لقد رعياك طويلا فارعهما قصيرا.
وللأسف أن بعض الآباء اصبحوا يشكون من قسوة الأبناء وعقوقهم، والحق أن الجزاء من جنس العمل فمن بر والديه بره أبناؤه، ومن عقّ والديه عقه أبناؤه، فإن أردت أن يبرّك أبناؤك فكن بارا بوالديك.
وانظر إلى الخليل إبراهيم حين تأدب مع والده وتلطف في دعوته فقابل الأب هذا الأدب بمنتهى القسوة، ما كان من إبراهيم إلا أن قال: «سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا»، فكان جزاؤه من جنس عمله، رزقه الله ولدا صالحا، إسماعيل الذي تأدب معه حين أعلمه أنه أمر بذبحه فقال: «يا أبت افعل ما تؤمر».
وأوصى الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين جميعا، وقرن هذا الأمر بعبادته والنهي عن الإشراك به، ليدلل على عظمته، ومكانته في الدين، وأمر كذلك بالشكر لهما والبر بهما، وأن ذلك من شكره: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا»، تعبير شفاف لطيف يبلغ شغاف القلوب وحنايا الوجدان، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
٭ شهد عبدالله بن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت قد حمل أمه على ظهره، يقول: إني لها بعيرها المذلل.. إن أذعرت ركابها لم أذعر، الله ربي ذو الجلال الأكبر حملتها أكثر مما حملت.. فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
فقال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة.
فحق الأم عظيم علينا أيضا.
فوالله لو قضى الأبناء ما بقي من العمر في خدمة الأبوين ما أدوا حقهما، رزقنا الله وإياكم بر الوالدين.