وضعت الحرب العالمية الثالثة أوزارها فجأة وبطريقة مبتكرة وعلى غير المتوقع، فلم تكن بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وحلف «ناتو» على الطرف الآخر، بل ومن سخريات القدر، وعجائب الزمن، والإعجاز الإلهي الماحق، أن تأتي بهم جميعا - رغم كل تناقضاتهم - في سلة أو جبهة واحدة، أمام عدو متناهي الصغر شديد الفتك، المسمى «كوفيد-19» بادرهم مباغتة، و«الحرب خدعة»، أو ضربة خاطفة، بسط سيطرته على الميدان، في حرب لم يكن لها في خلد «القوى العظمى» من حسبان، وقد بدت عليهم منذ الوهلة الأولى علامات الذهول في «ووهان»، فطغى وتجبر قتلا وتشريدا بالبشر، ثم بدأ يفرض شروط الذل والهوان، «انغلقوا على أنفسكم، ولا تجتمعوا، وتواضعوا قليلا، وإياكم أن تفقدوا رشدكم!».
جنرالات الحرب ليس لهم من حيلة أو فعل، وهم يهاجمون بقسوة في عقر دارهم، الأساطيل المحتشدة بالرؤوس النووية في أعالي المحيطات تطلق نداءات الاستغاثة والنجدة الواحدة تلو الأخرى، بعدما أعطبها في بحارتها، ولم تتجرأ بالرد بطلقة واحدة، قادة الشرق والغرب من الساسة بين التهدئة والتحذير، والإعلان عن إجراءات احترازية غير معهودة في أحسن الأحوال، والأمر لا يخلو من اتهامات جوفاء متبادلة، لإشغال الرأي العام عن الخسائر البشرية الفادحة وسوء إدارة الجائحة، ورجال الدين زادوا في التضرع والابتهال وجرعات الوعظ في خطبهم المعدة منذ سنين، والاقتصاديون يضربون كفا بكف «يا لخراب الديار، وانهيار الدولار»، و«التافهون» الذين أشغلونا بسخافاتهم الفجة في السنوات الماضية، أخيرا لم نعد نسمع لهم طنينا، وهجعوا في منازلهم، ليكتشفوا عوالم الطبخ الغامضة «وهذا كفوهم»، والعدو في غلوائه لا يرعوي، ومنذ الضربة الأولى، يواصل هجومه بلا رحمة ولا هوادة، يثخن فينا القتل الصامت، ويفجعنا فيمن نحب بأسوأ طريقة نتخيلها «الموت خنقا».
وحدها الجبهة البيضاء تقدمت الركب، رافعة الراية، رافضة الانكسار، متسلحة بعلمها الأكاديمي وتطبيقاته المنهجية، بسهر الليالي الطويلة، وبحوثها الدؤوبة، وبالدراسات الحديثة المتواترة، وقفت تذب عن الأمة جمعاء بكافة أديانها ومعتقداتها، تكافح دون هوادة.. «الجبهة البيضاء» متماسكة بعلمائها، وأطبائها، وباحثيها، وممرضيها، درست العدو بصبر المغدورين على حين غرة، تبحث عن ثغرة في صفوفه، فتمكنت بداية من تقليل أعداد الوفيات في مجتمعها الكبير، وتخليص العديد من الأرواح من بين يدي الفيروس القاتل، وهذا بداية النجاح والطريق نحو التقدم والانتصار، ليس على هذه الجائحة فقط، وإنما في كل ملمة ومحزنة قادمة، لن يكون العقد والحل إلا في بلاد العلم، وبيد أهل العلم ومتعلميه.
وستبقى عيون البشرية شاخصة في سعيها باحثة عن خبر مخبري من الغرب، أو اختراق علمي من الشرق، أو لحظة تجل فريدة لعبقري أنهك العقل والبدن في دراسة أشد أعضاء عائلة كورونا فتكا، ليعلن فيها الخبر الأهم في الألفية الثالثة.. وكأنها قريبة.
٭ تحية إجلال إلى الأرواح النقية إلى د.طارق حسين مخيمر ود.راو فازوديفا، ولكل من أسلم روحه إلى بارئها، وهو يصارع العدو الخفي في الصفوف الأمامية على طول «الجبهة البيضاء»، نسأل الله لكم الغفران، ونقرئكم التحية.
[email protected]