تجمعنا الأيام بتواليها بالكثير من بني البشر، قلة منهم يصنع لحظة، أو يضع بصمة، أو يزرع فكرة، ويمضي بإحسان، والأعم الأغلب يذهب مع ترادف الشهور والسنين إلى «الثقب الأسود»، تلك الظلمة السحيقة في عقل الإنسان من الذاكرة العمياء.. بلا عنوان.
التقيت قبل ما يزيد عن خمسة أعوام بفتاة احترت بلكنتها، ولم أستطع مع ما في جعبتي من مخزون جيد من «لهجات» الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج، تحديد من أي بلد تلك اللبقة حديثا، والأنيقة مظهرا، ولم تطل الحيرة كثيرا عندما تحدثت والدتها الواقفة إلى جانبها، فجادت بلكنة «بغدادية» جميلة الحروف، واضحة المعاني، قدمت عن نفسها وأسرتها الكريمة قليلا، وأردفت باسمة:«هذي بنتي، مواليد الكويت، أمها عراقية، ووالدها مصري».. فأطريت قولا: «يرعاكم الرحمن.. ما أجمل لقاء النيل بدجلة»، ضحكت الخمسينية الفاضلة، وتبسم «ثغر النيل خجلا، وأشرقت دجلة».. استرسلنا في الحديث قليلا، ومضى كل إلى غايته.
بقي اللقاء القصير زمنا، العميق فكرة في الركن الهادئ من الذاكرة، مدللا على أن التكامل والتمازج الإنساني بين الحضارات، والثقافات، جميل بجميع مدلولاته وقيمه.. وعلى النقيض، ترسخت بعيدا هناك، في بقعة سوداء من «الذاكرة العمياء»، حقيقة أن الانكفاء على العائلة، أو القبيلة، مدعاة للأمراض النفسية البغيضة، وباب جهنم للأمراض الوراثية المميتة عند المنغلقة «المتزاوجة».
[email protected]