تعتبر العولمة من المفاهيم الجديدة التي اكتسحت عالمنا المعاصر وهو مصطلح غامض لم يحدد بدقة، فالبعض يرى أنه مصطلح اقتصادي أساسا اتسع ليشمل جوانب أخرى، بينما يرى آخرون أنه مصطلح فكري في الأساس ولكن الاقتصاد أثر على مجالاته، ويمكننا القول بأنه نظام عالمي يقوم على الابداع العلمي والتطور التقني والتكنولوجي وثورة الاتصال ومعه تتساقط الحدود الجغرافية والسياسية ليصبح العالم مفتوحا، ومعه تسهل حركة رؤوس الأموال والمعلومات من غير قيود تحدها ولا حواجز تمنعها وبذلك تتقارب الأسواق وتتداخل الثقافات.
صورة جميلة مشرقة وبألوان زاهية وأبعاد واسعة يلمع بريقها ليزغلل أعين الجميع حتى أصبحوا يتشدقون بأن العالم أصبح قرية صغيرة، ولكن هل هذا هو الواقع؟ أم هي كذبة أرادوا منا تصديقها؟
لا ننكر أبدا أن العولمة ساهمت في انفتاح العالم على بعضه البعض وعلى سرعة انتقال الأخبار والعلوم والتعرف على أحدث انتاج للشركات العالمية في جميع المجالات كالإلكترونيات والسيارات وفنون الديكور والأثاث عدا الأزياء وملحقاتها، ومعه تزايد وعي المواطن العربي العادي بذلك وبحكم ان الانتاج الغربي أكثر دقة وجمالا وتطورا من الانتاج المحلي تم اهمال المنتج المحلي مما سيضعف الصناعة المحلية في مقابل تزايد الطلب على البضاعة الأجنبية، وبمرور الوقت سيتحول القطاع الوطني والخاص الى قطاع هش وضعيف تسهل السيطرة عليه وسحقه، هذا عدا تزايد عمليات الشراء عبر الانترنت مما يؤدي إلى رفع سعر صرف العملات الأجنبية وارتفاع نسب تداولها على حساب العملات الأخرى، ولأن الأبناء يرغبون بالسلع الأجنبية يتزايد ضغطهم على أهاليهم والذين يضطرون لمسايرتهم حتى وان كانت الأسعار باهظة حتى لا يتهموا بالبخل أو التقصير على الأبناء، وهكذا تتم السيطرة غير المباشرة على التجارة العالمية من قبل قوى لأفراد يهمهم استنزاف ثروات الشعوب.
للأسف الشديد لقد فتحنا الأبواب على مصارعها لخيوط العولمة المتشابكة فتغيرت صور مجتمعاتنا الهادئة والمستقرة، فالجميع أصبح يلهث وراء المال وبكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، وأصبحت الرغبة جامحة في معرفة أحدث التطورات العالمية في كل المجالات وامتلاكها ان امكن ذلك، ولم تعد القناعة كنز لا يفنى، وهكذا تسللت الثقافة الأميركية والأجنبية لحياتنا لتدخل بخطوات واثقة وتغزو عقولنا وقلوبنا، فها هي اللغة الانجليزية تنتشر في أوساط الشباب والأطفال في مقابل تراجع اللهجات المحلية، كما استبدلت المفاهيم والقيم والعادات والتقاليد وكل موروثات الآباء والأجداد بالصورة الأجنبية وبهذا أوجدنا نوعاً من الاغتراب بين الفرد وثقافته المستمدة جذورها من تاريخه العريق، وانقسم العديد من مجتمعاتنا العربية والاسلامية الى قسمين، قسم الكبار الذين يسعون للمحافظة على موروثهم الثقافي، وقسم الشباب الذين بهروا بالحضارة الغربية ويسعون لتقليدها حتى ولو على حساب القيود الأخلاقية المعروفة لذلك فهم ينظرون للكبار بنظرة التخلف الذي تجب محاربته.
اننا نرى وبأسف شديد اكتساحا للحضارة الغربية في مقابل سحق غريب للهوية الوطنية والموروثات الثقافية، ولأننا وبإرادتنا وضعنا الأجنبي في مركز الأكثر تقدما ونفوذا فإننا قضينا على خصوصية مجتمعاتنا وساهمنا في صنع عملاق قوي يعتمد على طغيان رأس المال والثقافة الغربية مما قد يهدد مجتمعاتنا الاسلامية والعربية باعتبارها مناطق استهلاكية ضعيفة، وبمرور الوقت ستزداد الفجوة بين الغني والفقير وستزول الطبقة الوسطى تدريجيا، وسيزيد الفقر وتتفشى البطالة وتزداد الهجرة، وسيترتب على انحدار أوضاعنا الاقتصادية خضوعنا للوصاية الأجنبية ولمنظمات عالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما، انه استعمار جديد لا يستعمل الأسلحة التقليدية ولكنه يتسلل الى حياتنا كالسرطان ويسرق أمانينا وأماننا وتماسكنا وموروثنا الثقافي.
[email protected]