مع سكون الليل، سرى الهمس في كل أرجاء الغابة، حيث لم ير الأسد منذ عدة أيام، وبدأت الآذان تقبل الشائعات حول صحة الأسد، وعدم قدرته على متابعة الأمور، خاصة بعد ما ألم به من حوادث، وكان آخرها التي سبقت غيابه ببضعة أيام، وما فتح المجال للشائعات هي هيبة الأسد وأسطورته التي تملأ أرجاء الغابة، ويعلمها القاصي والداني، ومن ثم فلا أحد يستطيع الاقتراب من هضبته المرتفعة التي يطل منها على الغابة ويدرك من خلالها كل شاردة وواردة تحدث على أرجائها، والتي جعلت الكثير من الحيوانات يظن ان الأسد يمتلك عينا سحرية، أو أرواحا متعددة قادرة على أن تجوب الأماكن وتسمع الأخبار، وتحيط المكان، لذا فقد حرصت الحيوانات منذ عهد قديم على الحديث ليلا وبهمس لا يكاد يسمع، ظنا منهم أن الأرواح غير قادرة على ادراك هذا الهمس في ظلمة الليل البهيم.
ليس صحيحا، صاح أحد صغار الغزلان معترضا على اسطورة الأرواح والأعين السحرية التي يمتلكها الأسد، فجذبته أمه اليها كي يخفض صوته ولا يسمعه أحد، بينما بدأ أبوه في تذكير أسرته بمصير الزرافات التي حاولت استثمار طول رقابها، حين اقتربت من ربوة الأسد العظيم، وتمايلت برقابها الطويلة محاولة التجسس على الملك، فلم تدري بنفسها إلا وبراثن الأسد مغروزة في رقابها ولا تستطيع الفكاك منها، فقد كانت مذبحة مازال صداها يدوي في الغابة كلها، ومازالت الزرافات تفكر في الانتقام وفي الصعود الي الربوة اذا تسنت لها الفرصة، لم تعجب الكلمات صغير الظباء، فأشاح بوجهه غاضبا وهامسا: لقد اقتربت الثعالب أكثر من الزرافات في الشهر الماضي، ولم نسمع عن هذه المذابح التي تتحدثون عنها، ابتسمت الأم قائلة يا لك من طفل ذكي، لكنك لم تدرك أن النهاية كانت نصرا عظيما للأسد، فعلى الرغم من كثرة عددهم وتقاتلهم وحصارهم لربوة الأسد لعدة أيام، إلا أنه كان قادرا بأعينه السحرية المتعددة على متابعتهم ومراقبة تحركاتهم، ويكفي أنه استطاع القضاء على معظم قطيعهم بهجماته المتعددة بين الحين والآخر، إلى أن قرروا الانسحاب والتراجع عن فكرة احتلال ربوة الحكم.
أومأ الغزال الصغير بالاستيعاب، الذي جاء متزامنا مع تنهد الأب، الذي طرح السؤال المحظور «وماذا بعد.....؟!»، فتعجب الجميع ناظرين الى رب الأسرة، لكنه استطرد هامسا: لا تعجبوا يا صغاري فأنا أخاف على مصير الغابة بعد الأسد، والمشكلة أن الكثيرين يطمعون في الربوة المقدسة، والأسد لم يدرب أحدا، ولم ينقل لأحد خبراته وتعاليمه وتقاليده العريقة، والتي يمكن ان تحافظ على بقاء هذه الغابة، ولذلك فجل ما أخشاه أن يصبح مصير الغابة الى الفوضى، وان تتجرأ علينا الحيوانات، وتنتهك قواعد التعايش السلمي التي نص عليها ملك الغابة في ميثاق العهد الآمن، ساعتها سيعم الخراب وسيأكل القوي الضعيف، وسنصبح عرضة للخدش والنهش، وهو ما أخاف عليكم منه يا صغاري، قاطعت الأم حديث زوجها، محاولة التخفيف عنه، وإزاحة غيامة الخوف والمصير المجهول عن صغارها بهمسها: «لا تخشى شيئا فكثيرا ما غاب الأسد، وكثيرا ما اعتقدنا انه لن يعود، وكثيرا ما خاض المعارك، وكثيرا ما اعترته الجراح، لكنه كان أقوى من كل ذلك، وهو ما صنع منه الأسطورة الخالدة في الغابة، حاول الزوج مقاطعتها، لكنها أكملت لا تحدثنا عن القادم أرجوك، بل تكلم معنا فيما نحن فيه، فالصغار ليس لهم ذنب في سماع أفكارك الغريبة التي تؤلم الرأس، فجأة جاءت زمجرة الأسد مخترقة سكون الليل في الغابة، وزلزلت قلوب كل قاطنيها، فاضطرب الغزال الصغير هامسا: انها أرواح الأسد المقدسة جاءت لتعلن عن سيطرتها على الغابة من جديد، ضمته أمه الى صدرها وصار الهمس حاكما للمكان، حينما تدلت نجمة سماوية مصاحبة للقمر كي تنير السطر الخامس على الصخرة المقدسة التي نقش عليها ميثاق العهد الآمن».. حيث لا جور ولا ظلم على أرض الملك العادل، وأن لكل كائن من كان حقا ونصيبا على هذه الأرض، فمن بغى بغي عليه، ومن جار فلا يلومن إلا نفسه، فكما تكون الصخرة المقدسة في قمة الغابة، تكون صخرة الموت لكل الظلمة والبغاة في دركها الأسفل، رب احفظ أسد الغابة.