لا عين الكويت ولا أذنها ولا ذاكرتها، تخطئ أحمد السقاف، فلمثله كانت العين والأذن والذاكرة.
كأنما جاء يخطب الصحراء الثكلى بموت الأزمنة فوق رمالها العطشى والمتشحة بصمت لا قرار له ولا قاع، لمروج اليمن وتلالها الخضراء وغوثها المنسكب، «بلّا فقطرا فوابلا»... ومثل «الصياد الذي راح يصطاد فصادوه» فقد وقع الخاطب في هوى المخطوبة وأسرها.
أسرته كويت ذلك الزمن الصامت، وذلك البصيص الخافت الذي يتسرب بين الشقوق، دليلا على أن هناك من يعمل على كسر الصمت وتثقيب وشاحه المرتخي. وراح هو يصير نورا من ضمن ذلك البصيص.
«خيركم من علم وعلّم» ركز أحمد السقاف عصاه في حقل العقول التي تتعلم، فكان المعلم والمربي والمهذب، هذب النفوس قبل أن يشرع في فتح العقول وقبل أن يحمل الطبشورة ليكتب على اللوح أبجدية الحروف.
فكان المعلم الملتزم الصارم الدقيق الحريص الذي لا يترك طالب علمه حتى يتأكد أن عقله كان وعاء أمينا لما صب فيه من علم وما سكب فيه من معارف.
ثم هو الناظر الصلب الذي دانت له مقاليد المدرسة بكاملها، فحزم حزما لا يبطل العدل بل يؤاخيه كتفا بكتف ونصيبا بنصيب وحصة بحصة.
هو الفصيح الذي إن تكلم، خال سامعه نفسه سامعا خطيبا من عصر النقاء اللغوي وقبل هجوم الفرس والمغول والترك وأهل الغرب والعجمة التي سكنت لسان «العرب» وما خالطه من مصاهرات شرعية أو غير ذلك!
كأنما كانت هذه اللغة بنته التي جاءت من صلبه وتربت في أحضانه ونمت تحت عينيه وكبرت بين يديه!
والفصاحة هي بوابة الشعر التي تدخل منها قوافل الشعراء إلى دوحة الشعر وتنيخ هناك ركائبها، فكان أحمد السقاف ربا من أرباب منابر الشعر الذي سخره جميعا - إلا ما ندر - لقضيته التي يشرب كؤوسها صبحا وعشية ويراها – بعينيه - مرسومة على وجهه كلما رنا إلى مرآة، وكأنما هذه المرآة تحدثه عن عروبة غربت وتهشمت وعفت عليها رياح الأزمنة، ولكنه ابنها النجيب الذي حمّلته أمانتها وأورثته أثقالها وثقيلاتها، وليس هو بمفرط فيها.
هذه الام (العروبة) حمّلته أمانة ترجمة هذا الحب واقعا يراه الناس ويعيشونه، وحتى لا تكون مجرد أحلام غابرة وتواريخ كاذبة وأساطير ما قرت ولا استقرت ذات زمن على الأرض، فأدى الأمانة ونفذ الوصية، فكان أبا لمجلة «العربي» لسان العروبة الناطق بالصدق ولا غير الصدق، فكانت العربي هي هلال العرب الذي يفطرون على رؤيته، وحينما يلوح في سمائهم، يتداعون للإفطار.
واليوم إذ أكتب راثيا أحمد السقاف، فإنني أرثي رجلا شرفني حينا من دهر بمجالسته والتقرب إليه وكان عينا رعت أول خطوي في رحلة القلم وكان أبا ومعلما ومرشدا وملاذا لي حين معضلة لغوية، ألوذ به فيجيرني من جور هذه اللغة الجائرة.
إلى روحك يا سيدي سلام أبدي، وثق بأن طهرك وعفتك وسموك، وكل ما غرست في هذه الأرض، هو مما يمكث فيها ولا يذهب جفاء.
[email protected]