-
سأنسحب من خيمة الوطن.. فليعـذرني
-
بدعة الأوبريتات الوطنية.. بذخ
-
من حبس وطني في عباءة الدراويـش؟!
-
ليس مهماً عندي .. رضاك أيها الوطن ما دمت رهينة في أيدي «الدراوشة» ومصاصي الدماء ومهابيل الوطنية الجديدة
الوطن المحبوس
حبسوا الوطن تحت عباءة الدروشة، وراحوا يضرمون النار فيه، كلما هب نسيم وطني، أو ما يسمونه «مناسبة وطنية».
وليس من مناسبة اسمى من مناسبة التحرير وتخليص الوطن من جراثيم الاحتلال القاتلة والفتاكة، ومن دنس المحتلين وإثمهم ونجاسة أخلاقهم.
إن الوطن الذي أرادوه ميتا، وصلبوه سبعة أشهر على صارية الاحتلال..
وعاثوا في جوفه وتاريخه فسادا وإفسادا، عاد حيا من تحت الرماد، نفض غباره، وشمخ في قامته العلية عاليا، تبرق عيناه برق عيون الصقور، ويحلق بجناحيه كما النسور الدوارة في السماء.
الدروشة الوطنية
ذلك الوطن لا يعرفه دراوشة الاحتفالات الوطنية، وذكرى عيد التحرير.
مجرد أبواق صوتية هتافة بكلام لا وزن له في مدح ضب أعرج، فكيف يرقى ذلك الكلام لأن يكون كلاما للوطن في أعز ايامه واشرفها «يوم التحرير».
اطفال ابرياء جعلوا منهم «بلياتشوات»، ودمى مصنوعة متحركة بحركات نمطية رتيبة يرددون كلاما سقيما يشكو من علل الحروف وخواء الكلمات، فيه التكلف والصنعة الممجوجة والمعاني البلهاء.
سحقوا طفولتهم البريئة وزجوا بهم إلى أتون الدروشة الوطنية وألبسوهم عباءة الوطنية الكاذبة.
وشبان ـ لو انتصب سيف العدل ـ لكانوا رهائن في السجون جعلوا من تلك المناسبات الوطنية فرصة للتنفيس عما يعتمل في قلوبهم من اركان الجريمة الكاملة.
وبدعة الأوبريتات الغنائية بدعة لم تحدثنا عنها الرهبان ولا الركبان ولا إنس قبلنا ولا جان.
أموال موحّلة تصرف عليها وبذخ ملاييني تهفو إليه نفوس المتعطشين إلى نهب الوطن بدندنات أعوادهم.. وقرع طبولهم الجوفاء.. وخرخشة دفوفهم.. ونعيق أصواتهم.. وبهلوانية رقصاتهم.
وكل يدّعي حبا بهذا الوطن الذي يكره من يحبه.. ويحب أعداءه ومصاصي دمه..
وطن محلوب ومسحوب
إن هذا الوطن.. ليس وطني
وهذا الوطن المحلوب والمسحوب والمضحوك عليه في جاهرة النهار.. ليس هو الكويت..
لا يشبه ذلك الوطن الذي تحرر من الغزاة في يوم ذي مفخرة..
فلا تكن أيهذا الوطن.. وطني..
اسمح لي.. أن أنسحب من تحت خيمتك.. واعذرني..
أو لا تعذرني..
ليس مهما عندي.. رضاك مادمت رهينة في أيدي «الدراوشة» ومصاصي الدماء ومهابيل الوطنية الجديدة..
إمارة لم يرثها أحد
إن كان «نزار قباني» قد لوّن بنفسج الشعر.. وعطّر ياسمينه.. وألبس عرائسه «الدانتيل» و«البروتيل» و«الميني جيب».. وقص شعورهن «غارسون».. وطلا شفاههن بـ «الروج».. وزين وجوههن بالمزينات وكساها بالماكياج..، فإن «أحمد شوقي» أمير الشعراء في زمانه ذاك وحتى زماننا هذا، وإلى أن يأتي الوريث الشرعي لتلك الإمارة المزدحمة بطلاب العرش، قد شق الأرض واستخرج منها كنوزها الشعرية.
كان يغرف الشعر من جوف الأرض.. ولا يشتري بضاعته الشعرية من أصناف ما يعرض في الاسواق لأعين السابلة والدهماء والسوقة.
لذلك استحق امارة الشعر عن جدارة.
إمارة لم يسع إليها.. بل سعى الآخرون بتاجها الى رأسه.
فصار للشعر قامة.. وهامة.. وإمارة محروسة لا يعيث فيها ولا بها عائث.. ولا يفسد فاسد.
> > >
قطار الوطنية.. كامل العدد
في كتابه «مبدعون ومجددون» يظهر مؤلفه د.أحمد زلط ان بعض النقاد قد عاب على «احمد شوقي» تأخره للحاق بركب الوطنية..
والتعبير عن الشعب وهمومه الثقيلات في ذلك العصر الذي يموج بالتحركات السياسية المتضادة والنفور من المستعمر.. او الرضاء به.
ونسبوا بُعد شوقي عن الشعب لكونه قد نشأ في القصر وتحت نظر الخديوي وتمرغه في نعيمه، فكان اكثر شعره في مديحه.
بل لقد غالى «شوقي» في مجافاة الشعب، حين قال:
صغار في الذهاب وفي الإياب
أهذا كل شأنك يا عرابي
وذلك بمناسبة عودة «احمد عرابي» من المنفى، وهو البطل القومي في أنظار المصريين، لأنه مفجر الثورة الأولى، ومن ثار على المستعمر، ولكن لشوقي رأيا آخر، لا يرى فيه سوى صغير في ذهابه وعودته.
وكذلك يعيب النقاد عليه تأخره في رثاء «مصطفى كامل» وهو ايضا احد الوطنيين كما يراه مجايلوه ولكنه رغم تأخره أبدع في ذلك الرثاء:
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
وتتضمن تلك القصيدة بيتا من أصدق الشعر وهو:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
> > >
حكماء وشعراء
وأشعار «أحمد شوقي» كان لها ما كان لأسلافها من قصائد الشعر العربي القديم، من حيث القدرة على الرسوخ والبقاء والدوام، لأنها تتخذ من الحكمة التي يطلبها الإنسان في حياته، بناء لها ولقوتها الواضحة والمؤثرة في النفس البشرية، ولاسيما النفس العربية التي تتأثر بالقول ويعيش داخلها وتتفاعل معه.
ولو فتشنا داخل نفوسنا لوجدنا من ذلك الكثير، فمازالت النفس العربية تحفظ وتردد أبياتا من الشعر وتتخذه كحكمة، ابتداء من الشعر الجاهلي والمعلقات مرورا بما لحق ذلك من عصور ازدهار الشعر العربي، حتى يومنا هذا، وليس انتهاء عند «شوقي» فقط.
ألسنا نردد حتى اليوم غزل عنترة بن شداد:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسّم
أو قول كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمولُ
وكذلك تلك التراشقات الشعرية بين «جرير» و«الفرزدق» أو حماسة «أبي تمام»، وقوفا عند «المتنبي» الذي أغنى النفوس وشحنها بالكثير الكثير من روائع الشعر المنطوي على الحكمة والمثل.
> > >
الاكتواء بنار المنفى
وقصائد «أحمد شوقي» زهت وتسامت وسمقت جذوعها بذلك الغنى الشعري الحكيم أو ما يصح أن يُتخذ حكمة ومثلا سائرا.
وان كانت لدانة العيش في القصور ونعومة الحياة فيها، قد أنست شوقي معاناة الناس وضجيجهم ووقفت أسوارها سدا دون سماع أصواتهم، فإنه رغم ذلك كله ومع تبدل الأزمنة والظروف، فقد قال «شوقي» شعرا وطنيا خالدا يرقى الى مستوى الحكمة.
فمن ينسى قوله:
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرامُ
والمنفى الذي اكتوى بناره «عرابي» الذي صغره «شوقي» في ذهابه وايابه، كوى أيضا بناره «شوقي» حين تبدلت الظروف السياسية وأطيح بصاحب القصر ونفي الى خارج مصر، وكان «شوقي» في معيته، منفيا، وهناك أحس «شوقي» بمرارة البعد عن الوطن.
وله في حب الوطن قصائد تعتبر من آيات الشعر في كل زمان:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
أو أسا جرحَه الزمانُ المؤسّي
أحرام على بلابله الدوحُ
حلالٌ للطير من كل جنس
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
> > >
في المغارة والشارع
و«أحمد شوقي» أيضا وأيضا تجده كلما فتحت بابا أو دخلت مغارة أو عبرت شارعا، فهو موجود في الاغراض الشعرية كلها، حتى أنه أدخل أدب الاطفال في الشعر العربي، وكذلك الرمز والمسرح الشعري.
ومدائحه النبوية لم يسبقه اليها أحد في القيمة والمعنى والتلذذ بالمدح وتبيان قيمة الممدوح وهو النبي محمد ژ، ومنها قوله في قصيدة «سلوا قلبي»:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري
بمدحك بيد أن لي انتسابا
مدحت المالكين فزدت قدرا
وحين مدحتك اجتزت السحابا
وله الكثير غيرها في المديح النبوي ولعل الشهير في ذلك «نهج البردة» و«ولد الهدى»، والقصائد الثلاث هذه غنتها «أم كلثوم» مختصرة، ولم تغنها كاملة لطولها ـ أولا ـ ولصعوبة بعض أبياتها ـ ثانيا ـ على السمع الغنائي.
ورفع «شوقي» أيضا راية الغزل، فكان من أحسن من تغزل، لاسيما حين يستحضر الصور التاريخية لقصص الحب مثل قصة «قيس وليلى»:
جبل التوباد حيّاك الحيا
وسقى الله صدانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه وكنت المرضعا
وفيها:
كلما جئتك راجعت الصبا
فأبت أيامه ان ترجعا
لم تزل ليلى بعيني طفلة
لم تزد عن أمس إلا اصبعا
وهي قصيدة غزلية رفيعة القدر الشعري ومليئة بالصور الاخاذة.
> > >
إذن هو «أحمد شوقي»، فإن قلت إنه شق الأرض وأخرج منها شعرها المخبوء فلن أكون مبالغا، ويكفي أن أشعاره في الذاكرة، وعلى اللسان اليومي فيما يردده من قول أو استشهاد.
لا أراني ـ بذلك ـ لبست ثوب النقاد والدارسين والباحثين عن عثرات يقيلونها أو يتوقفون عندها تقريظا ولوما بل مازلت في جلدي ذاته لم أتزيَّ بأي زي لناقد أو باحث أو دارس، فقط أردت أن أخوض عالم «أحمد شوقي» الجميل والغني والمتنوع، في سانحة صحافية سيّارة.
> > >
الشعراء حدائق أزمانهم، وأحمد شوقي حديقة زمانه وزماننا.
[email protected]