بعد كتابه الوثائقي «دواوين الاثنين» الذي صدر عام 2008، يقتحم الباحث يوسف المباركي عالم الرواية لأول مرة برواية قصيرة تحمل عنوان «ليلة الدانوب الأزرق».
تقع أحداث هذه الرواية بين عدد من الأمكنة، الأكثر وضوحا بينها الكويت في موسم الشتاء ولندن في موسم الصيف، وتقع بين زمنين الماضي والحاضر.
ويحدث أسلوب تيار الوعي، التيار الأكثر حداثة بين التيارات الأدبية، مزجا بين المستويين مكانيا وزمانيا، فيستعيد الكاتب ملامح أيام جمعته بإنسانة عزيزة عليه، ضمن وسط شبابي، أولته عناية خاصة، من دون أن يستطيع رؤية أفق لهذه العناية.
تحدث هذه الاستعادة برفقة معزوفات فرقة موسيقية في مكان ما غير محدد، وخلال مناجاة ذاتية يبدأها الراوي، ويقطعها أحيانا حديثه مع صديقه، أو تكرار عزف مقطوعة «الدانوب الأزرق» الشهيرة للموسيقار النمساوي شتراوس، بعد أن طلبها صديقه من عازفات الفرقة من غير غاية محددة أيضا، لينكشف خلال السرد أن هذا النهر، الدانوب، معادل موضوعي لمشاعر الراوي، وتردده بين الشك واليقين، فهو يبدو، كما نعرف، رماديا أحيانا، وأزرق صافيا أحيانا أخرى، أو هو معادل للحياة في مستويين، مستوى الماضي ومستوى الحاضر، ولأنه نهر يجري، مثلما تجري نغمات الموسيقى بلا عودة فإنه يبدو معادلا مؤثرا لإحساسنا بالزوال، نحن وتصرفاتنا وأفكارنا، الحزين منها والمبهج، الأحمق منها والعاقل.
ويكتشف القارئ خيط الأحداث شيئا فشيئا، تماما كما يحدث مع الراوي صاحب الذكرى، فالراوي لا يمتلك يقينا حول حقيقة مشاعره أو مشاعر هذه الإنسانة التي يمنحها اسم «منال» حتى آخر سطر في روايته، ويترك لنفسه ولنا ما نستخلصه من هذه الخاتمة.
«ها نحن بجوار البحر، نلمح بين الأمواج طائرا يصعد أو يهبط، نلمح الشمس خلفه تغرق شيئا فشيئا، هو الغروب مرة بعد مرة، وهو ظل الليل، ظلها وظلي، يمر أليفا رقيقا، يتهامس مع خيال لا نراه».
وحتى هذا الاسم الذي يمنحه لهذه الإنسانة الحبيبة، يبدو قلقا يشف عن مفارقة تشكل بنية النص كله، لأن هذه الإنسانة، بحكم ظروف حياتها الغامضة، وترددها غير المفهوم في البداية بين الكويت ولندن، تظل نائية وبعيدة لا يرجى «نوالها»، جسدا وفكرا، وحتى حين يأتيه خبر وفاتها بعد زمن غاب فيه كل منهما عن الآخر، يأتيه عبر صفحات صحيفة.
الأكثر وضوحا في هذه الرواية افتتاحها لصفحة جديدة في تاريخ الرواية في الكويت، تلك التي يمكن أن نسميها «صفحة شعرية السرد الروائي».
فهنا، وبسبب تقنية تيار الوعي، وشجن الفقدان الذي يحيط بالراوي، وبسبب الروح التأملية التي تطغى على الانشغال بسرد الأحداث، تحقق هذه الرواية، منذ عنوانها المميز، مستوى شعريا عاليا.
أي إنها تستكشف ما وراء المعنى باستخدام أسلوب التصوير الموحي، فتحرر الأشياء من هويتها الظاهرية أولا، وتقيم علاقة بين الإنسان والطبيعة ثانيا، ثم تترك للقارئ أن يحاول استخلاص المعنى من بين كل الممكنات والعلاقات التي تترى صورة بعد أخرى.