الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فتعيش أغلب الأمهات الغربيات في جفوة بينهن وبين أبنائهن، فمنذ أن يبلغ الابن أو البنت سن الرشد يخرج من بيت أمه ليعيش لوحده أو مع أصدقائه، منشغلا عن أمه بمكابدة الحياة أو باللهو والملذات.
وحاولوا في الغرب أن يذكروا الأبناء والبنات بأمهاتهم ولو في يوم واحد في السنة فاستحدثوا واعتمدوا أخيرا في القرن العشرين عيدا للأم لإدخال السرور على قلبها بهدية أو رسالة أو مكالمة، ويختلف تاريخه من بلد لآخر ففي الولايات المتحدة الأميركية وكندا وكثير من الدول يكون في الأحد الثاني من شهر مايو، وفي بعض الدول يكون في الأحد الأول من شهر مايو، وفي تواريخ مختلفة عند البعض الآخر، وقلدتهم الدول العربية فاعتمدته أغلبها في يوم 21 من شهر مارس.
وهذا يعكس حالة الأسى التي تعيشها الأم الغربية، فهل حق الأم على أبنائها يكون في يوم واحد في السنة؟
هل الأم منسية لهذه الدرجة حتى يتم تذكير أبنائها بها في يوم واحد في السنة؟
إن الإسلام أكرم الأم غاية إكرام، وجعل إكرامها وإدخال السرور عليها والإحسان إليها في كل أيام السنة وطول العمر.
فقرن الله تعالى حق الأم مع حقه تعالى الذي هو التوحيد في آيات كثيرة فقال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، وقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا).
ووصى تعالى بالوالدين خيرا وذكر الإنسان بما عانته أمه في سبيل وصوله للحياة ورعايته في الصغر فقال: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا).
بل أوصى برعاية الأم والأب والإحسان إليهما ولو كانا كافرين فقال: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا).
ونهى عن كل ما يؤذيهما لاسيما عند شدة ضعفهما وحاجتهما لابنهما أو بنتهما في سن الكبر فقال تعالى: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) ثم أمر بلين الجانب لهما وبين أن الرفعة الحقيقية في التذلل لهما فقال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) فالجناح هو الذي يحلق به عاليا وهو كناية عن الرفعة، ثم ختم الآية بالأمر بالدعاء لهما فقال: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
وبين النبي ﷺ أن أحق الناس بالبر والإحسان في الدنيا هي الأم ثم الأب، فقد جاء عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنه سأل النبي ﷺ فقال يا رسول الله: من أبر؟ فقال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ولعظم منزلة الأم في الإسلام فقد بين النبي ﷺ أن بر الوالدة والإحسان لها مقدم على ذروة سنام الدين -الجهاد في سبيل الله، فعن معاوية بن جاهمة السلمي أنه قال: أتيت النبي ﷺ فقلت يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك أحية أمك؟ قلت: نعم، قال: ارجع فبرها، ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فارجع إليها فبرها، ثم أتيته من أمامه فقلت يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ويحك الزم رجلها فثم الجنة) رواه النسائي وابن ماجة وصححه الألباني.
وإن بر الوالدين والإحسان إليهما في الإسلام ليس فقط في كل أيام حياتهما بل يستمر بعد وفاتهما، فقد روى أبو أسيد رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ فقال له: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم.
ولهذه النصوص الشرعية وغيرها عرف الصحابة الكرام منزلة الأم في الإسلام وعظم حقها على أبنائها وفضيلة برها، فقال ترجمان القرآن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما: (لا أعلم عملا أقرب إلى الله -عز وجل- من بر الوالدة) أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
ولما شهد عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- رجلا يمانيا يطوف بالبيت حاملا أمه على ظهره ويقول:
إني لها بعيرها المذلل
إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم سأل ابن عمر رضي الله عنه: أتراني جزيتها؟
فقال ابن عمر رضي الله عنه: لا، ولا بزفرة واحدة -يعني من زفرات الولادة. أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
فهل بعد ذلك نحتاج نحن المسلمين لتقليد الغرب في الاحتفال بالأم وإدخال السرور عليها في يوم واحد في السنة؟ حق الأم في كل الأيام في حياتها وبعد وفاتها.
أنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
لم يأت أحد ولا تشريع بالإحسان للأم بمثل ما أتى به الإسلام.
فلنعتز بإسلامنا ولنلتزم تعاليمه ونبر أمهاتنا وآبائنا ونحسن إليهما وندخل السرور عليهما في كل الأيام.
اللهم اجعلنا بارين بأمهاتنا وآبائنا، وارض عنا وعنهم، ورضهما علينا يا كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
twitter:@dr_aljarman