عندما أحرق الشاب التونسي محمد بوعزيزي نفسه سخطا وقهرا، فإنه لم يكن يدرك انه لم يشعل شرارة النار في نفسه فقط، وإنما أشعلها في جميع الأقطار الأخرى، ليكون رمزا للثورات الحديثة.
ثورة الشاب بوعزيزي حركت الشباب الآخرين في الأماكن الأخرى لينظموا صفوفهم، ويعدوا أنفسهم، ويستعدوا للامتحان الأكبر، وحسب الظروف.
وثورات شباب اليوم لا تحاك مضامينها في السراديب السرية وخلف الأبواب المغلقة، وانما تبدأ حين تتداول علنا وجهرا بأحدث وسائل الانتشار السريع وبالتقنية الحديثة المتوافرة، ليسمعهم كل العالم ويقف معهم.
ثورات الشباب تختلف كثيرا عن ثورات «الجنرالات» والتي هي في العادة يسيل فيها كم هائل من الدماء المراقة لتصفية الحسابات.
ثورات الشباب ثورات سلمية هادئة، هادفة، فيها مطالب مشروعة، وضد العنف حقنا للدماء، سموها: ثورة الياسمين، أو المخملية، أو البيضاء، أو الخضراء، سموها بألوان قوس قزح الجميل، والذي يظهر في سماء ملبدة بالغيوم السوداء، بعد سيل غزير من أمطار الاحتجاجات الأولية.
ثورات الشباب مثل عمرهم اليانع، وعودهم الطري، ونشاطهم الزائد، واندفاعهم غير المحدود، يسيرون بها نحو هدف واحد معلن، وهو طلب العيش الكريم، والحرية التي يريدونها للتعبير عن آرائهم، لا أن تفرض عليهم قسرا.
ثورات الشباب أثبتت بالحقائق الملموسة ـ كما عايشناها يوما بيوم ـ انها فاعلة، تستطيع ان تسقط أعتى نظام من على كرسيه وسلطانه، ومهما اختفى خلف ترسانة قواته وأسلحته الفتاكة التي تحمي عرشه من شعبه وليس من الأعداء الآخرين، ومهما استخدم من أدوات المصالح المشتركة ومن أدوات البطش والتعذيب والتنكيل والظلم والطغيان.
ثورات الشباب تكون صادقة إذا صدقت نواياهم، وتنجح إذا نجحت مفاهيمهم، وفي كل شيء، ولكنها تسقط حين يستغلها الغير، ويتسلق من المجهول من الداخل أو من الخارج من قبل أولئك المختفين أو المنسيين الذين يخرجون فجأة من هنا وهناك، ويصبحون هم الأبطال وهم المتحدثين على شاشات الفضائيات، وهم نجوم المرحلة مستغلين الأوضاع وتردي الحال وتضحيات الشباب أنفسهم للوصول لمآربهم الخاصة، وأجندتهم المرسومة، ونواياهم المبيتة، وهم أصلا لم يفكروا حتى في مسيرة احتجاج، ولم يشاركوا في الثورة في بدايتها.. لا من قريب ولا من بعيد.
رأينا هذا في ثورة شباب تونس، ورأيناها في ثورة شباب مصر، وسنراها ايضا في الثورات المقبلة، في الأقطار التي تحت رمادها جمر مؤجج.
الفرح والزعل
عندما قام شباب تونس بثورتهم ضد الرئيس زين العابدين بن علي فرح الكويتيون في الكويت، وعندما قام شباب مصر بثورتهم ضد الرئيس محمد حسني مبارك زعل الكويتيون في الكويت، وكان وراء سبب هذا الفرح، وهذا الزعل، ذلك الجرح الذي كان مخزونا في الأفئدة منذ 20 عاما، حين ميزوا بين القائدين العربيين خلال محنة احتلال النظام العراقي البائد للكويت، ومواقفهما من احتلال وطنهم، وميزوا حتى بين مواقف الشعبين الشقيقين في ذلك، ومن وقف مع المظلوم ومن وقف مع الظالم، ولهذا كانت رؤية الكويتيين مختلفة عن رؤية بقية الشعوب الأخرى من الثورتين، ومع هذا، فإن الكويتيين ـ رغم جرحهم ـ لم يشمتوا بالذي لا فضل له عليهم، وفي الوقت نفسه لم ينكروا فضل من كان له الفضل في وقوفه مع محنة بلدهم.
وهكذا سيكون موقفهم ـ مع الأسف الشديد ـ مع كل الأنظمة الاستبدادية التي وقفت مع المستبد ولم تقف مع محنتهم وهي أقرب الأنظمة الى الزوال، بعد ثورات شعوبها، وحسب المؤشرات الواضحة التي تأتينا، وهي لا تحتاج الى تفكير.
الحالة المصرية عند الكويتيين
الحالة المصرية بالنسبة للكويت والكويتيين حالة خاصة وفريدة من نوعها، لها مذاقها وطعمها بتوابلها، وخصوصيتها وعموميتها بتوابعها، وهي حالة نادرة تحصل بين الشعوب والأنظمة، فيها العرفان المتبادل، والاحترام الزائد، والنظرة الثاقبة لتسيير وتسهيل الأمور، وتبادل المصالح المشتركة من دون أي مزايدات تعكر صفو علاقة هذه الحالة.
والحالة الكويتية بالنسبة لمصر والمصريين لم تخرج يوما من هذا الإطار النظيف، وهذا المنظور الواضح في المواقف الرائعة النبيلة الكثيرة في كل المراحل، ومن هذه العلاقة الحميمة كان كلاهما يدين للآخر بالفضل، وكانا كلاهما يحمد الله سبحانه وتعالى بهذا المعروف.
لماذا نحب مصر؟!
نحبها لأننا ومنذ نعومة أظافرنا لم نسمع صوتا جميلا يفرحنا سوى الصوت المصري، قبل كل شيء، وتربينا على ذلك الصوت الشجي الذي كان يطربنا باللحن الفريد، والكلمة الحلوة، فعرفنا كيف تصاغ الأغنية الطربية، وكيف تكتب المسرحية الهادفة، وكيف يصور الفيلم الرائع، وكيف يؤلف كتاب المعرفة، شعرا وقصة ورواية، وعرفنا كيف ترسم اللوحة، وكيف تنحت المنحوتة، وكيف تطبع الصحافة لتقرأ، وكيف يكون للتاريخ العريق مواقعه الراسخة ليشاهد.
عرفنا كل هذا من مصر والمصريين، حتى كبرنا وكبرت فينا مبادئنا التي زادت فينا الاحترام أكثر احتراما.
لماذا نحب المصريين؟
نحبهم لأننا ومنذ صغرنا حين ذهبنا الى مدارسنا رأينا الأستاذ المصري يدرس لنا قبل الآخرين، وفي كل مراحلنا الدراسية حتى تخرجنا في جامعاتنا، وحين دخلنا مرحلة أعمالنا ووظائفنا زاملنا اخواننا المصريون في كل وظائفنا، وحين كنا نبني منازلنا كان المهندس المصري يرسم خرائطنا، والمقاول المصري يتعهد لنا، والعامل المصري يحمل الطابوق، وحين كنا نشيد قواتنا الباسلة، كان الضابط المصري يوجهنا كيف نرص الصفوف، وكيف ننزل الى الميدان.
لا ننكر هذا الشيء، ولا هم ينكرون أفضال الكويت عليهم في إفساح المجال لهم ليسعوا وراء الرزق الحلال.
لماذا نحب حسني مبارك؟
نحبه لأن الحق يقال، ولأن معادن الرجال الطيبة لا تظهر على حقيقتها إلا في أوقات المحن، وأثناء محنة الكويت الكبرى في الثاني من أغسطس عام 1990 ـ والتي نحتفل هذه الأيام بانتصارنا فيها ـ كان للرئيس المصري محمد حسني مبارك دور فيها، وكان قائدا وزعيما وإنسانا، وقف مع الحق الكويتي ضد الباطل العراقي، رغم الاتفاقية التي كانت تربط بلاده «اتفاقية الدفاع العربي المشترك» مع العراق والأردن، ونقضها بعد ان ادرك كعسكري محنك وكقائد ملتزم المقاصد العدوانية من الاتفاقية التي بنى عليها ديكتاتور بغداد آماله في احتلال الكويت.
نحبه لأن في عهده بكت معنا «أم الدنيا» وصرخت بوجه «أم المعارك» القبيح، التي تعرت تماما فقالت لها: «كفى».
نحب الرئيس محمد حسني مبارك ايضا لمواقفه المشرفة في كل الحروب العربية التي خاضتها الأمة ضد الكيان الصهيوني، وضد الإرهاب أينما كان، ونحبه لدوره الملموس في رسم طريق السلام لأمته وإزالة العقبات عن هذا الطريق الشائك، وفي تقريب وجهات النظر، وصياغة الكلمة الموحدة للوقوف في وجه المخاطر التي تهدد الجميع.
نحب الرئيس محمد حسني مبارك لأنه أحبنا وأحب أمته، ووقف الى جانبنا والى جانبها، وتكلم نيابة عنا ككويتيين وكعرب في آن واحد، ونحبه لما حققه لبلاده من إنجازات وانفتاح اقتصادي الذي سيّره، والبناء السياحي الذي شيده في أماكنها المعروفة عند الجميع كمقصد للزوار، حين وضع مصر في القمة أمام أنظار العالم رغم ثقل الأعباء الملقاة على عاتقه، ورغم معاناته ومرضه، ورغم شيخوخته وتعبه.. ولهذا نتمنى ان ينهي ما تبقى من أيام حكمه القليلة، ويرحل معززا مكرما، كعهدنا دوما بمصر والمصريين.
اعذرونا يا شباب مصر العظيمة، إذا أحببنا الرئيس محمد حسني مبارك، لأنه كان معنا عظيما في مواقفه المشرفة، وسيبقى كذلك ما حيينا لأن مصر في عهده كانت عمقنا وعمق الأمة العربية بوزنها وثقلها وكلمتها وقيادتها، إذا أنصفنا مصر فنحن ننصف أنفسنا، وإذا أسأنا إليها فنحن نسيء الى أنفسنا.
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل ونسألكم وأنتم تطالبون برحيل رئيسكم الآن وبأسرع وقت ممكن، حتى من دون إعطائه فرصة للملمة كرامته على الأقل، نسألكم ماذا ستفعلون إذا رحل؟ ومن هو البديل الذي سيحكمكم بهذه السرعة، ونحن نشاهد كل من هب ودب يتصدر وسائل الإعلام المختلفة وهو يضع شروطه؟
نشاهد أولئك المتحزبين الكثر، وهم يسرقون منكم أضواء إنجازاتكم، ويفرضون أجندتهم التنظيمية، ويملون شروطهم للوصول الى السلطة، وليس لتحقيق مطالبكم، وأنتم الذين أفسحتم لهم المجال بسكوتكم من حيث لا تدرون.
نسألكم بالله، هل ترضون أن يحكمكم أي حزب من الأحزاب الكثيرة الموجودة الآن، بدلا من الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم؟ وهل سيكون الحزب الحاكم الجديد هو منقذكم؟
أنا لا اعتقد ذلك، ولكني أقول صادقا: لا تجعلوا ثورتكم الشبابية وإنجازكم الطيب يستغلهما أولئك «المحنطون» كما نراهم أمام الشاشات، ولدينا مثل نردده عند الأزمات: «امسك مجنونك.. لا يجيك أجن منه».. سلامتكم وبس.