شكرا لكل من عبّر عن طيب استقباله (لأيامنا الحلوة 1) مما يشجعني اليوم أن أستأنف السرد تمشيا مع خصائص الشهر الفضيل وطابع (الحكايات) الذي يحيط به عادة من شعبيات الى إعلانات الى مسلسلات وكثير من العَوْد للماضي
بطقوسه وعاداته وأغانيه.
نعم وجدت نفسي في موقع اسمه (تلفزيون الكويت) ساحات كبيرة ومبان قليلة وبوابة حديدية ضخمة وبواب أسمر بالدشداشة والغترة والعقال والبشت - في بعض الأحيان اسمه (عنتر) ولا أجزم - حتى هذه الساعة - إن كان ذاك اسمه الحقيقي أم أن أحد ظرفاء الموقع أطلقه عليه تشبها بعنترة بن شداد.
أشار لي عنتر باتجاه المبنى حيث الاستوديو، فوجدت نفسي هناك في مواجهة رجل في منتصف العمر من الاخوة المصريين يقدم نفسه كمسؤول عن إدارة الاستوديو إداريا وفنيا.
فيعرض عليَّ أداء بروفة أمام الكاميرا والتي أراها لأول مرة وكانت كاميرا ضخمة سوداء اللون تجلس على عمود معدني ذي ثلاث أقدام بعجلات تسهل سحبها يمينا وشمالا عبر مجموعة من الأسلاك السميكة الحجم ثم أخذني الى غرفة مغلقة بعد أن طرق الباب مستأذنا.
قائلا لي: هذي غرفة المكياج.
فاستغرب استغرابي لماذا؟
قال: ضرورة المكياج ضروري للشاشة.
قلت: ألا يكفي الكحل كما أنا أمامك؟
قال: لأ... للكاميرا عين خاصة فكان عليَّ أن أخضع وأعطاني ربع ساعة للاستعداد للتجربة فاستسلمت مع بعض من عُسر خشية المبالغة التي لم أعتدها وتركني وحدي في غرفة صغيرة فيها مرآة كبيرة على الحائط ورف عليه بعض أدوات المكياج في هيئة لا تجذب لمسها أشعرني بالخوف من لمس أي منها حتى جاء الإنقاذ من زميلة مصرية كانت تقدم (ركن المرأة) على التلفزيون قبلي وتنوي العودة الى مصر وقد جيء بي لأخذ موقعها فأشرت لها باصبعي الى المواد التجميلية المحذوفة على الرف بإهمال شديد فطمأنتني قائلة: ولا يهمك.. أنت تأتين بعدتك وعتادك من بيتك.. كلنا هكذا.. وهبطت على نفسي السكينة فأعطتني مجلة نسائية كانت في الغرفة للتسلية وكانت المجلة تونسية واسمها «دنيا المرأة»، وهكذا قررت أن يكون اسم البرنامج «دنيا الأسرة» بوحي من ذاك «السجن النسائي» ثم خرجت للتجربة الاولى وكانت فقط لإزالة الفزع من مواجهة ذاك الجهاز الأسود الكبير (الكاميرا) لأقول كلاما لا لون له ولا طعم ولا رائحة في حفل التعارف ما بيني وبين الحديد والصلب وسط ابتسامة تشجيع من مدير الاستوديو وانبهار من الاخوة خلف الكاميرا في محاولة لتمييز قولي ومحاولة تحديد مصدره حتى انتهت الجولة بتجفيف (العرق) وسط ابتسامات التشجيع من حولي، وما هي إلا دقائق أو بعض ساعات حتى وجدت نفسي أمام مسؤولية تصورتها - عَرْض السماء والأرض.
عدت الى عربتي وهمست للورق والقلم أطلب العون فكان الرد هو أهمية تحبير ذاك الورق وبدأت بالأولويات التي ما كانت تصعب عليَّ استنكارا (لبرنامج المرأة) - الإذاعي - والذي سبق لي إعداده وتقديمه عبر إذاعة الكويت لكن الفارق ما بين الأمس (الإذاعي) واليوم (التلفزيوني) كبير جدا.
إذاعيا كنت في الظلمة اليوم أنا تحت الأضواء... إذاعيا، الحديث من شخص واحد الى شخص واحد وإن ازداد هذا العدد فسيبقى في حدود كلمة (التلفزيون) فاضح لا قدرة لإنسان على تخمين عدد المشاهدين.
إذن.. ما أولوياتك يا بنت حسين؟
وكتبت على ورقة صغيرة:
1 - جاذبية المادة.
2 - تواجد الرجل.
3 - الحضور الدائم للطفولة - كمسؤولية للزوجين.
4 - الصحة وثقافة الغذاء.
5 - المصادر كتب ومجلات أجنبية وعربية.
وكانت خطوتي الاولى لتسجيل أول حلقة من برنامج «دنيا الأسرة» في شهر سبتمبر 1963 أحمل بعضا من مكتبتي الاسرية والتي توسطتها النسخة ما بعد العشرين مليون نسخة من كتاب بنجامين سبوك dr.benjamin spok (الطفل ورعايته).
****
ذكرني دخولي للتلفزيون بتجربتي السابقة لدخول (الاذاعة) عدد قليل جدا من أهل البلد - الكويتيين - والاغلبية من اخوتنا واخواتنا في العروبة.. وهو أمر طبيعي وغير مستغرب نظرا لتفوقهم علينا - زمنيا - في التعاطي بمثل تلك الأجهزة. لكن العقبة الحقيقية التي واجهتني في تلك الأجواء إنما هي عزوف الكويتيين رجالا ونساء عن الظهور على الشاشة مما جعلني أدور حول نفسي باحثة عن مخرج إذ ليس من الطبيعي أن أظهر لمدة نصف ساعة - وقت البرنامج - وحدي لابد من التلون حتى لا يمل القوم من الموضوع ومن الوجه أيضا وحاول كل من شجعني على ارتكاب تلك المعصية أن يساعدني وكان أولهم والد عيالي - يرحمه الله - حتى أوشكت أن (أضرب رأسي بالحيط) كما يقول الاخوة العرب ووصلت من اليأس حدا أوشكت فيه أن أعتذر للصديق د.يعقوب الغنيم وأتراجع عن تقديم البرنامج.. حتى جاءني الفرج من المرحوم والد العيال برضى المرحوم (زيد الكاظمي) للظهور معي تشجيعا - لابنة العم - كما قالها المرحوم للمرحوم.
كان المرحوم زيد الكاظمي رائعا في صبره معي ورزانته وحديثه وكان قمة في التحضر في وقوفه معي تشجيعا لي واحتراما لوالدي الذي كان يسميه العم.
لقد أخذت تلك الحلقة ثماني ساعات لإنجازها لكثرة الوقفات نتيجة الأخطار الفنية إما من الأجهزة أو من مقدمة البرنامج أو أحدهم بفتح باب الاستوديو بالخطأ فتتوقف الأجهزة (البدائية) آنذاك..
ونظرا للغياب التام لعملية (المونتاج) يحدث ما لابد من حدوثه وهو الإعادة من الصفر.. ما كان يضاعف من خجلي من ضيفي لكنه - رحمة الله عليه - كان يبتسم بصمت ويتعهد لنفسه أن يصبر مادام كان راضيا وأصر أن يبقى معي حتى ننتهي ولم ننته قبل الساعة السادسة مساء وكنا قد دخلنا الاستوديو الساعة العاشرة صباحا.
التلفزيون والإذاعة آنذاك كانت تابعة لوزارة (الإرشاد والانباء) وكان في تلك الوزارة (لجنة مراقبة يومية) تعطي تقرير سماعها - إذاعيا - ورؤيتها - تلفزيونيا صباح كل يوم للمسؤول مع مقترحات في التشجيع أو التعديل أو الاستمرار على ذات النهج.
ولأول مرة أعرف أن في الإذاعة والتلفزيون مسارين للعمل إما موظف أو متعاون والأخير عادة يكون خارج الكادر أجره كان يسمى (مكافأة) وقد وُضعت في تلك الفئة ولم يكن لدي أي اعتراض بل وجدت في الاسلوب ما يناسبني لأنني آنذاك كنت أما لطفلين ومسؤولة عن بيت أسري بكل ما يحمل من واجبات ومسؤوليات مما جعلني أؤسس صومعة خاصة داخل منزلي فيها جهاز سينما وكتب ومجلات وهاتف ونقلت عملي لمكتبي من التلفزيون الى بيتي مما أسعد أطفالي وأراحني ومكنني من أداء واجباتي على الشاكلة المرضية لجميع أفراد الأسرة.
لقد قررت الوزارة إهدائي عشرة دنانير مقابل كل برنامج من نصف ساعة.. لم أعترض لأن المتعة الذاتية التي كنت أحصل عليها والعلمية أيضا كانت لي ذات فائدة عظيمة وممتعة.
لكن هذا الأجر كان يرتفع دون علمي شيئا فشيئا لأن أستاذنا الكبير المرحوم الشاعر أحمد السقاف كان يرأس اللجنة وكان يكرمني دوما بثنائه - رحمة الله عليه.
لقد منحت لسنوات مركز صاحبة أعلى أجر حتى دخل على الخط الدكتور عبدالله النفيسي في برنامج عظيم ومن الوزن الثقيل سياسيا وثقافيا وعلا في أجره عن أجري وما رضيت حتى ارتفع أجري الى رقمه - رغم اختلاف المحتوى - وكان صعودي الى الصف الأول الى خمسين دينارا عن الحلقة فكانت الخاتمة لعملي المنتظم لبرنامج دنيا الأسرة بعد خمسة عشر عاما.