ما من دولة سيادية تحترم دستورها وقوانينها يخلو تاريخها أو واقعها السياسي من فضائح مالية أو شبهات التعدي على المال العام. السبب الموضوعي لهذا أوضح من أن نتحدث عنه بالتفصيل، إنه بكل بساطة: سحر النقود، والسحر كما هو معروف هو ما يأخذ الأبصار والعيون، والمسحور هو من يرى الأشياء كما يريد له الساحر، والنتيجة واحدة، فالمسحور لا يرى الحقيقة.
للنقود سحر، لا يشك عاقل في هذا، وكما يستخدم الساحر الزئبق الأحمر في سحره (كما يقولون)، يستخدم رجل السياسة المال السياسي في عملية الخداع التي يمارسها. والحال أنه ما إن تأكدنا من وجود «ساحر» في مجال السياسة فمن الضروري أن نجد من انبهروا بسحره فأصاب الشلل جوارحهم فلم يروا من حقيقة أخرى سوى المال.
وقد يقول قائل: وما المشكلة في هذا كله فالساحر يريد مصلحته وكما يقول المثل «اللي تكسب به، العب به»، وإذا كان المال يضمن النجاح السياسي فما الضير في ذلك؟ أما المسحور وهو من قَبِل المال على نفسه فهو شخص لم يخالف قانونا مكتوبا ولو كان غير ذلك فالبينة على من ادعى. حجة جيدة ولكنها تغفل مبدأ ضمنيا تعارف عليه كل مشارك في العملية السياسية، ألا وهو أنك أينما كان موقعك السياسي فإنك قد أصبحت شخصية «عامة» ومعنى عامة في هذا السياق أنك تمثل الجميع على اختلافهم وأنك تقف بالضرورة موقف الحياد تجاه قضاياهم واضعا المصلحة العامة فوق مصلحتك الذاتية. والمصلحة العامة هنا هي الحفاظ على العملية السياسية التي أتت بك لهذا الموقع وستبقى كذلك بعد غيابك عنها. إن العملية السياسية عملية قوامها «الكلام» أي أنها تقوم على الحوار والحجة والبراهين التي تبرر أي اقتراح أو قرار يخص المجتمع.
أقول «الكلام» أو الحوار، وهو الأداة السياسية الوحيدة بدرجة امتياز، لأننا نعيش في بلد ديموقراطي يشدد على تدافع الآراء بعضها بعضا حتى ينتهي مخاضها برأي هو الأفضل كما تراه الأغلبية. في مثل هذه العملية الديموقراطية لا مكان لعضو «صامت». إن من يقدم المال في المجال السياسي يدرك إدراكا ضمنيا عجزه الشديد عن الكلام وعن ممارسة السياسة بوسائلها الاعتيادية القانونية. هذا إن لم نشكك في نيته على اعتبار أنه قد قدم المال من أجل تمرير مصالح خاصة.
إن دخول المال للمجال السياسي مؤشر على العجز والخواء الفكري الذي يمثله صاحبه: فهو شخص لا يمتلك رؤية واقعية أو مستقبلية ولا حججا يدافع بها عن هذه الرؤية إن وجدت. والحال أن تقديم المال في هذه الحالات هو أسهل الطرق إلى المرمى، ولا أدري إن كان الحكم سيعتبر هذا غشا، وذلك لأنه ببساطة خروج عن قواعد اللعبة التي أرستها المفاهيم الديموقراطية. لا يهمني في هذا كله أن تكون المساءلة دستورية أم غير دستورية أو أن يكون المال المقدم مالا خاصا أم عاما، ولكن يهمني أن ندرك أن من يمارس الغش يخرج بالضرورة عن قواعد اللعبة، ومن يخرج عن هذه القواعد يستحق أن يستبعد منها. فكّر فيها!