أكتب هذه الكلمات في الطائرة التي تقلني من الكويت عائدا إلى دمشق بعد تلقي العزاء في والدي الذي انتقل إلى جوار ربه الأسبوع الماضي، انني أبلغ من العمر 41 عاما تشاركتها مع والدي الحبيب، لقد شاركته شبابه حين كنت مراهقا وخضنا معا مغامرات هذه المرحلة بما تحمله من ضحك ومناوشات ومقالب، وأصبحنا أقرب بكثير عندما غادرت منزل العائلة وسافرت بهدف العمل، لقد استمتعت بوالدي خلال فترة حياته، تحدثنا، تناقشنا، ضحكنا، سافرنا، اختلفنا وتفاهمنا.
إن العلاقة بين الآباء والأبناء مختلفة من شخص لآخر، فمنهم من لم يعرف والده، ومنهم من كان صغيرا حين فقده ومنهم من لا يعنيه أبيه، ومنهم من ينكر وجوده، و...و...و...
أما أنا فعلاقتي بأبي قسمت عمري إلى نصفين، نصف معه ونصف أفكر فيه وأذكره وأحرص على أن أقوم بكل ما أعلم أنه سيسعده.
لقد عاش والدي حياته كما يحب، كان عزيز النفس، كتوما، حنونا، حازما، محبا...
لقد رباني والدي مرتين، مرة بحياته وأرجو من الله أن أكون وإخوتي قد نلنا رضا الله في بره، ومرة ثانية بعد وفاته، وسأشارككم درسي معه بعد وفاته رحمه الله، والذي لم أكن أعلم عن هذا الموضوع شيئا حتى وفاته.
والدي كان قانونيا، درس الحقوق وعمل لدى جهة حكومية حتى أدرك سن التقاعد منذ حوالي 20 عاما، أخلى مكتبه، ووضع بضعا من أقلام الرصاص وبعض القرطاسية من مخصصاته وجلبها معه إلى المنزل، قالت لي والدتي بأنه منذ حوالي عامين سمع على جهاز الراديو ـ الذي لا يفارقه ولا يبدله - درسا للشيخ (محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله) بأن من يستعمل مخصصات العمل في اموره الخاصة يعتبر حراما، لم تمر هذه الكلمات في ذهنه مرور الكرام، فطلب من والدتي البحث عن هذه القرطاسية حتى وجدوها في غرفة تخزين قديمة ـ لقد كان حريصا على مقتنياته ويحتفظ بكل شيء ـ سأل والدتي أين بالإمكان التبرع بهذه القرطاسية إلى جهة خيرية فأخبرته، أخذ هذا الصندوق ومحتوياته ـ التي في احسن الأحوال لا تتجاوز قيمة محتوياته كاملة الخمسين دولارا ـ وذهب إلى إحدى الجمعيات الخيرية وتبرع بها كاملة.
و بعد وفاته رحمه الله، لاحظت قائمة طويلة في دفتره الخاص الذي يسجل فيه حساباته، كان كل شهر يقوم بالتبرع بجزء كبير من راتبه التقاعدي لإحدى الجمعيات الخيرية ويكتب على دفتره الخاص بجانب كل دفعة (بدل القرطاسية التي أخذتها من مكان عملي).
وبعد وفاته، وفي خزانته الخاصة التي ولأول مرة أملك الجرأة بأن افتحها، وجدت شقيقتي وصيته الصغيرة المتواضعة مخبأة في جيب معطفه الأول والذي كان قد وضعه بشكل مقصود ليكون أول ما يمكن أن تراه حين تقوم بفتح خزانته، لقد كانت وصيته الصغيرة معنونة بـ (هام):
أرجو أن تقوموا بالتبرع ـ بمبلغ كان قد وضعه مع الوصية ـ إلى أيتام إحدى الجمعيات الخيرية وكتب أيضا (بدل ما أخذت من قرطاسية من مكان عملي) لقد أرقته هذه الأقلام والأوراق، لقد كانت هذه الأقلام خطيئته الكبرى في حياته، أتعبته، خاف منها، وهو من تشهد صفحات مصحفه المتآكلة من القراءة على إيمانه.
كما نوه أيضا بهذه الوصية بأن تتم تغطية نفقات الجنازة من ماله الخاص.
يا حبيب القلب، اذهب مرفوع الرأس، نظيفا، أبيض، منيرا... كما بدوت في سريرك يوم وفاتك...
هذا هو والدي الذي أفخر بحمل اسمه.
وأقول له الآن: «لقد حطت الطائرة الآن يا حجي وما زلنا على المدرج»
كان يجيبني: جيد، الحمد لله ع السلامة.. أخوك بشر في انتظارك خارج المطار.
فلقد حرص في كل مرة أسافر فيها ـ والرحلات كثيرة ـ أن يتصل بي عشرات وعشرات وعشرات المرات ويضيع وقتا طويلا في الاتصال وأنا لا أزال في الجو وخطي مغلق، فقط من أجل الاطمئنان عني ومن أجل هذه المحادثة القصيرة.