لقد آليت على نفسي أن أكتب بين كل فتره في السلة الاقتصادية عن الإدارة في الإسلام والاقتصاد الإسلامي بشكل عام، ولقد كنت أقول لطلبتي في الدورات والمحاضرات دائما إن أعظم كتاب إدارة واقتصاد في الإسلام هو القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النحل (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) ويقول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضوان الله عليه لقد أنزل الله سبحانه وتعالى في هذا القرآن تبيانا لكل شيء في حياتنا، وأيضا يقول الله سبحانه وتعالى (ولقد ضربنا في هذا القرآن من كل مثل)، وللأسف الشديد لم تلق علوم الإدارة الإسلامية الاهتمام اللازم بالرغم من أن كثيرا من الأنظمة الإدارية الإسلامية هي عماد الحضارة الغربية اليوم، مثل ديوان المظالم ونظام حماية المستهلك واليوم يتجهون بعد الأزمة العالمية المالية إلى البنوك الإسلامية والمعاملات الإسلامية وفي واقع الأمر فإن الإدارة الإسلامية شيء أكبر من هذا بكثير، والحمد الله منذ كتابة مقالتي عن فلسفة النبي صلى الله عليه وسلم في محاربة الفساد والتي لاقت اهتماما كبيرا بالإضافة إلى مقالة الاحتكار.. واليوم إن شاء الله سنكتب عن إدارة المسجد.
يقول الله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ويقول الله تعالى (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) ولاشك إن هذه المقالة ليست مخصصة لتبيان أهمية المساجد أو الأحكام الفقهية للمسجد فهذا ولله الحمد من المعلوم بالضرورة لدى كثير من المسلمين، وإنما مخصصة لتبيان أهمية إدارة المسجد بصورة إدارية فعالة وفق توجهات الإسلام، فمع بداية بناء النبي صلى الله عليه وسلم لدولته في المدينة وبنائه أول مسجد للمسلمين في المدينة كان واضحا أنه يريد أن يكون هذا المسجد خالصا لوجهه الكريم دون أي دوافع سياسية أو اقتصادية ولذلك أول وصوله للمدينة قال لأصحابه اتركوا هذه الناقة (أي ناقته القصواء) فإنها مأمورة، ووقفت الناقة في أرض تابعه لأيتام، ليثبت الله عز وجل أن المساجد يجب أن تكون خالصة لوجهه الكريم، وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» وأيضا كان ينهى صلى الله عليه وسلم عن التصفير والتحمير في بناء المساجد تأكيدا لفلسفة الإسلام في أن المساجد للعبادة وليس للتفاخر، وكان صلى الله عليه وسلم أيضا ينهى عن السؤال وقضاء الحاجة في المساجد، وكان رجل يسأل عن ناقته الضائعة في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا رد الله لك ناقتك»، ونهى صلى الله عليه وسلم أيضا عن أحاديث الدنيا في المسجد ودعا إلى هجر من يعملون ذلك، فالمسجد بالإضافة إلى أنه مخصص لعبادة الله وحده فهو أيضا مخصص لطلب العلم الشرعي وتعلم القرآن كما كان يفعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد هو شعاع نور وخير على أهل المدينة أو المنطقة أو الحي واليه يلجأ المسلمون في سعادتهم ومحنتهم وأذكر أنه في أول يوم للغزو العراقي الهمجي على الكويت أول صلاة ظهر يوم 2/8/1990 امتلأ مسجد ابن القيم في الروضة عن آخره حتى أن الناس لم يجدوا مكانا، وأيضا المسجد مكان راحة نفسية وانشراح القلب ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال عن الصلاة: «أرحنا بها يا بلال» - أي الصلاة - وكان لي زميل دراسة من أهل مكة يقول لي إذا صعبت علي الأمور في الدراسة ذهبنا إلى المسجد الحرام فإذا هي تسهل علينا وتنشرح قلوبنا ونتمكن من الحفظ، والمساجد ليست للتكسب السياسي أو الاجتماعي وإنما هي منارة علم كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» إسناده صحيح، أخرجه ابن ماجه، وللمسجد دور ثقافي، فرويت السيدة عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها أنها كانت تنظر من فوق كتف النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأحباش يلعبون بالمسجد، وهذا من التعرف على ثقافات الأمم الأخرى، ولذا فالمسجد له دور كبير في حياتنا وحري بنا نحن الإداريين أن يكون لنا دور في تنظيم المسجد إداريا ووضع هيكليته.
1- مدير المسجد: الإمام هو مدير للمسجد يديره إداريا لتحقيق أهدافه وأيضا يدير العاملين معه ويتعامل مع القوى البشرية فحري به أن يلم بأساسيات الإدارة مثل التخطيط والتنظيم والتوجيه، وغيرها من المفاهيم الإدارية الضرورية لإدارة المسجد فهذه المهارات مطلوبة له فيجب أن يعرف كيف يضع خطة وينفذها، وكيف يحقق أهداف المسجد، وكيف يتعامل مع الجمهور، ويضع سياسته في العلاقات العامة وينفذها، وهنا قد ينتقدنا البعض ولكن لنا أن نذكره أن أئمة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هم كانوا رجال الدولة ويمارسون عملهم الإداري من خلال المسجد وأيضا يجب أن نعيد تعريف دور المسجد من مكان للصلاة إلى منارة علم وثقافة، وعلاج نفسي واجتماعي للمسلمين، فإمام المسجد هو مدير المسجد ويمكننا في المساجد الكبيرة أن نضع مديرا وإماما كما في المسجد الكبير.
2- نائب الإمام أو المدير: كثيرا ما نقلل من قيمة المؤذن والذي له دور كبير في المساجد، وكنت مرة أصلي أيام الدراسة في المهندسين في مصر وهناك مسجد لا أذكر اسمه حاليا ولكن أعجبني أن الإمام والمؤذن خريجي الأزهر من حملة الشهادات الجامعية وأيضا ممن يحفظون القرآن الكريم فإذا غاب الإمام لا تشعر بالفرق، لذا أنا أفضل أن يكون المؤذن من نفس مستوى الإمام في الشهادة والتدريب وحفظ القرآن والقدرات الإدارية وأيضا يجب أن تحدد مسؤولياته.
3- شؤون القرآن الكريم: وهي المسؤولية عن إدارة حلقات الحفظ، مسابقات القرآن الكريم واستضافة القراء في المسجد، توزيع القرآن على الأهالي والجاليات في الحي أو المنطقة.
4- العلاقات العامة: معرفة أحوال المصلين والأهالي شيء رئيسي ومن واجبات المسجد ودوره وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن أهل المسجد إذا فقدوا، فقد كانت امرأة تنظف المسجد فماتت فدفنها الصحابة رضوان الله عليهم بدون أن يعلموا الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فأعلموه فذهب إلى قبرها وصلى عليها، واليوم نحن بأشد الحاجة إلى هذا المستوى من العلاقات العامة ويجب معرفة أحوال أهل المسجد من مرض وموت وحاجة هذا بالإضافة إلى إمكانية عمل نشرة خاصة بالمسجد فيها أخبار أهل الحي، والتواصل مع الجمعيات والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص لدعم المسجد والتبرع لمشاريعه.
5- المكتبة وقاعة المحاضرات: كما ذكرنا أن المسجد منارة علم وثقافة، فحري بكل مسجد أن تكون فيه مكتبة جيدة فيها أمهات الكتب والكمبيوتر (يحوي الكتب الإلكترونية) وآلات التصوير هذا بالإضافة إلى قاعة للمحاضرات والدورات الأسرية والإدارية والاجتماعية التي يمكن عقدها بالمسجد.
6- الدور التكنولوجي أو الفني للمسجد: وهو مسؤولية تصميم ومتابعة صفحة الانترنت بالمسجد والمراسلات مع الوزارة والمؤسسات الأخرى وأيضا تلقي التبرعات للمسجد ونقل صلاة القيام والتراويح مباشرة من المسجد إلى من يرغب من الأهالي وتوفير محاضرات المسجد على الانترنت، والفتاوى الصادرة من الإمام إلى الأهالي تكون موثقة ومتوافرة على الانترنت، وهذا على العموم مطبق في ماليزيا حيث إن المساجد الكبيرة جميعها متوافرة لها خدمة الانترنت والمراسلات الالكترونية ومعروف أن ماليزيا سباقة في مثل هذه الأمور.
7- وقف المسجد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا مات المرء انقطع عنه عمله إلا من ثلاث ... أو صدقة جارية» وقد دأب أهل الكويت منذ القدم على الوقف على مساجدهم لتصرف هذه الأوقاف على المساجد وللأسف أن هذه الأوقاف أصبحت بمئات الملايين ولكنها محجورة عن المساجد في الكويت حتى المساجد التي لها أوقاف فالناظر إلى حال المساجد في العاصمة يجد أغلبها في حال يرثى لها وبحاجة إلى صيانة دائمة، فنرجو من الإخوة في الأمانة العامة في الأوقاف زيارة هذه المساجد وتعديل أوضاعها من الأوقاف التي عندهم، عموما أنا أقترح أن يفتح حساب خاص لكل مسجد وإعطاء الفرصة للأهالي للتبرع لوقف المسجد ويكون هناك مسؤول مباشر عنه، يكون دوره متابعة تنمية الوقف ومن ثم الصرف على المسجد وبهذا نزيل الحمل عن الدولة في الإنفاق على المساجد وأنشطتها.
8- مشاريع المسجد: لقد دأب المصلون في بعض المساجد على بناء مشاريع خيرية سنوية باسم مسجدهم وهذه فكرة عظيمة خاصة أن أهل الكويت من الله عليهم بالخير ويريدون أن يشاركهم المسلمون في شتى أنحاء العالم في هذا الخير وأيضا المشاريع على المستوى المحلي مثل إفطار الصائم والأسر المتعففة وتمويل الحجاج وغيرها، فيكون هناك مسؤول عن هذه المشاريع بحيث يتم متابعتها وتحصيل الأموال وغيرها.
9 ـ الإسكان والضيافة والتنظيف: يعاني كثير من الأئمة من بعد مسكنهم عن المسجد وهذا يؤثر في أدائهم كثيرا خاصة أنه مطلوب منهم أن يأتوا خمس مرات في اليوم، وأذكر أنني كنت فترة سكنت في الجابرية وكان إمام مسجدنا يأتي يوميا من مشرف وكان يجد في ذلك مشقة ولكن في حال توفر السكن القريب للإمام بالقرب من المسجد فهذا من شأنه أن يساعد الإمام والمؤذن في أداء دورهما بفاعلية، والأمر الآخر هو المسؤولية عن نظافة المسجد والحمامات وهذا للأسف الشديد من المساوئ التي يعاني منها المسلمون في كل مكان إذ غالبا تكون الحمامات مهملة ومتسخة بما يندى له الجبين فالمطلوب طبعا الاهتمام بهذا الجانب وأن يكون هناك مسؤول عنه وحتى الإمام فإنه يساءل عن الموضوع وفي مرة دخلت لأتوضأ في حمامات أحد مساجد الزهراء فوجدت قذارة ووساخة لا تصدق حتى البرادات لشرب المياه مملوءة بالمحارم فذهبت إلى إمام المسجد فقلت له هل ترضى أن تكون حمامات بيتك وسخة قال لا، فقلت له كيف ترضى ذلك لبيت الله وهو أولى من بيتك وأنت أيضا مسؤول عنه، فقال انا صار لي أشهر ما دخلت حمام المسجد ولا أعرف كيف أحواله، فلا حول ولا قوة إلا بالله؟ وأيضا من الأمور المهمة موضوع الطعام خاصة أنه أصبحت هناك مشاريع إفطار الصائم في المساجد فيفضل أن يكون هناك مسؤول عنها وأيضا لتوفير مياه الشرب النقية والعناية ببرادات الماء التي تكون غالبا مهمله في المساجد.
10 ـ المسؤولية المالية للمسجد: وهي المحاسبة عن إيرادات ومصروفات المسجد وأيضا تنمية الإيرادات كما ذكرنا من خلال الأوقاف والتبرعات والمشاريع.
وبهذا تكون أهداف المسجد العصري أو المعاصر حسب ما وضعنا من هيكلية أعلاه كالتالي:
- أ - توفير مكان آمن ومستقر للعبادة والتعلم والراحة.
- ب - العناية بالقرآن الكريم وتحفيظه وتفسيره.
- ت - توفير الأماكن للتعلم والمكتبات وإلقاء المحاضرات.
- ث- استضافة القراء والعلماء لنشر الإسلام وعلومه.
- ج- إطعام الفقراء والمساكين.
- ح- بناء المشاريع وأوقاف المساجد.
- خ - استقطاب أفضل القوى البشرية لإدارة المسجد وإمامته.
- د - استخدام أفضل الطرق التكنولوجية لتعزيز دور المسجد.
- ذ - العناية بدور الوقف والصدقات وبناء المشاريع الاسكانية.
- ر - العناية الاسكانية وتوفير مسكن ملاصق للامام والمؤذن.
وأخيرا نرجو من وزارة الأوقاف التوفيق ودراسة هذه المقترحات بكل موضوعية لأنها سوف تحدث نقلة كبيرة في إدارة المساجد.
شكراً للحكومة
منذ أسبوعين كتبنا مقالة الكوادر وبينا مدى خطرها على الميزانية العامة للدولة بالإحصائيات، كما بينا أن هذه الخطوة غير مهنية وتقتل العمل الإداري الحكومي ويعارضها علماء الإدارة ومنظمات التنمية مثل البنك الدولي، كما بينا أن هناك بدائل إدارية للكوادر أهمها التوصيف والتقييم الوظيفي المفترض به أن يطبق منذ عقدين من الزمان كما نص عليه قانون الخدمة المدنية وأيضا بينا أن ديوان الخدمة قد انتهى من توصيف وتقييم جميع وظائف الخدمة المدنية والنظام بحاجة إلى تطبيق، ولله الحمد الحكومة استجابت لهذه المطالبات وأوقفت الكوادر وطلبت من ديوان الخدمة إعداد البدائل وعلى رأسها نظام التوصيف والتقييم كما أخبرني بذلك مسؤولو ديوان الخدمة، فشكرا لحكومتنا العزيزة على هذه الخطوة وإلى مزيد من تطبيق مشاريع التطوير الإداري إن شاء الله.
[email protected]