تحت بند «سد الذرائع» ظهر عدد من مشايخ الدين بفتاوى شغلت الناس أو بالأصح شغلوا الناس بها مع كل اختراع إلكتروني أو كهربائي يظهر، فمنها في الأربعينيات انطلقت فتوى تحريم الراديو، وصدرت عدة فتاوى وليست فتوى واحدة تحرم وبشكل قطعي فالشيطان يأتي عبر الراديو كما وصف أحدهم، وفي الخمسينيات ظهرت فتاوى تحرم الفونوغراف أو مشغل الأسطوانات «البشتختة» وشمل التحريم على ما أظن المسجل أيضا وهو ما ينسحب على أشرطة الكاسيت، بعدها في الستينيات ومع انطلاقة البث التلفزيوني وتماشيا مع «سد الذرائع» حرم التلفزيون وجاءت الفتاوى كسلسلة انشطارية لا تكاد تتوقف فتم أولا تحريم اقتناء التلفزيون ومعها تحريم بيعه ومشاهدته، وفي الثمانينيات ومع ظهور الفيديو تم تحريمه تحريما قطعيا وجرى عليه ما جرى على التلفزيون، وفي التسعينيات تم تحريم «الستالايت» ولا أعتقد أن أحدا ينسى جماعات «تحطيم الستالايت»، ومع بداية الألفية الثالثة حرم الإنترنت، وكان ذلك تحت عذر «سد الذرائع»، وبالمناسبة لمن لا يعلم هناك فتاوى رسمية صادرة من مشايخ لهم ثقلهم أفتوا بحرمة «البلاي ستيشن» وأعتقد أن حكمها يسري على لعبة «الوي» وكذلك «الأكس بوكس» وألعاب الهاتف النقال اعتقد أنها لن تسلم من التحريم.
ومن يتابع تسلسل وتتابع فتاوى تحريم المخترعات الجديدة يجد أنها تتجدد كل عشر سنوات، ويظهر كل شيخ ومعه أدلته مع ظهور كل ابتكار علمي حديث.
والغريب أنه من يتابع مصير تلك الفتاوى يجد أن أول من يرفضها وينقضها و«يطنشها» هم شيوخ دين أيضا، فمن ينسى مثلا أن الشيخ الراحل عبدالله عزام كان يقوم باستخدام أشرطة الفيديو للترويج الدعائي للسفر إلى الجهاد في أفغانستان لقتال الروس في السبعينيات والثمانينيات وأعتقد أن تنظيم القاعدة ما كان ليكون كما هو اليوم لولا أشرطة الفيديو عن قوافل شهداء الحرب الأفغانية، واليوم ورغم التحريم الذي صدر ضد أشرطة الكاسيت لا يوجد شيخ أو داعية، سنيا كان أم شيعيا، معتدلا كان أم متطرفا، إلا وكان طريق انتشاره إلى العامة أشرطة الكاسيت «المحرمة»، ورغم ظهور فتوى بتحريم التلفزيون إلا أنه لا يوجد شيخ أو داعية إلا ظهر في برنامج تلفزيوني أو حتى كان له برنامجه الخاص، ومع وجود تحريم «الستالايت» فان بعض المشايخ اليوم يمتلكون قنواتهم الخاصة، وتدور بينهم حرب ضروس في سبيل الانتشار الفضائي الديني.
حرموا الإنترنت وهاهم جميعهم بلا استثناء، المعتدل منهم والموغل بالتطرف، يمتلك موقعا على الإنترنت.
مشكلة بعض مشايخ الدين أنهم كانوا يسارعون إلى تحريم ما لا يفهمونه ولا يعرفون طبيعة عمله، وهذا ما سبب التناقض بين انطلاقات الفتاوى بتحريم أي ابتكار تكنولوجي لحظة ظهوره وعودة هؤلاء المشايخ لاستخدام ذات الابتكار بعد سنوات من تحريمهم له، صحيح أن نيتهم بيضاء، لا أشكك، ولكنهم كانوا يرمون بالتحريم قبل حتى أن يحاولوا فهم طبيعة الشيء القادم، قبل حتى أن يعرفوا جوانب الاستفادة الحقيقية من هذا الابتكار الجديد، فالانترنت ليست خلاعة ولا برامج محادثة تجمع فتى وفتاة على «الماسنجر» فقط، بل الإنترنت عالم مصغر فيه كتب إلكترونية وتواصل مالي ووسيلة اتصال وبورصات عالمية ومواقع تواصل بين الشيخ وأتباعه.
مؤخرا توقف المشايخ جزاهم الله خيرا عن مهاجمة كل ابتكار جديد أو بالأصح توقفوا عن تحريم قطعية استخدامه بالمطلق، وحددوا فتواهم بمدى استخدام الشخص لذلك الابتكار فمن يستخدم الإنترنت لأغراض منافية للآداب والأخلاق يدخل في دائرة التحريم ومن يستخدمه في أغراض الفائدة والبحث والقراءة والاتصال فهنا يدخل بدائرة الإباحة، وكان الأجدر أن يكون هذا منطلق المشايخ منذ البداية بدلا من أن نقضي 50 عاما نحرم كل قادم جديد.
ولكن وعلى الرغم من توقف المشايخ عن الإفتاء بقطعية تحريم الابتكارات العلمية، إلا أن الحكومات العربية يبدو أنها بدأت تلعب دور المفتين المنغلقين أمام أتباعها من شعوبها، فمثلا هاهي حكومتنا مشكورة تريد ان تلعب دور المفتى «المنغلق» وتعلن نيتها لحجب خدمة «البلاك بيري»، لماذا؟ ببساطة لأنها لا تفهمه تماما كما كان بعض المشايخ.
هل تريدون معرفة كيف أن الحكومة بتصريحاتها لا تعرف عم تتحدث؟ حسنا فحكومتنا القائلة انها تسعى لحجب «البلاك بيري مسانجر» أو منع متصفح الإنترنت على «البلاك بيري»، هي ذاتها الحكومة التي عجزت منذ 12 سنة عن منع سرقة المكالمات الدولية عن طريق الإنترنت والتي تكبد وزارة المواصلات سنويا خسائر تقدر بملايين الدنانير، فحكومة لم تقو على البنغالي «مياه» وصديقه الهندي «كومار» و«رفيجهم» الباكستاني عبدالحق الذين يديرون أوكار سرقة الاتصالات الدولية في الجليب، لا أعتقد أنها تستطيع أن تقف بوجه اشتراطات شركة «ريم» الموفرة لخدمة «البلاك بيري»، إلا إذا كانت حكومتنا تنوي حجبه بالكامل وتعود إلى الوراء بينما العالم يسير إلى الأمام.
[email protected]