خلال نقاش مع صديق من المتمرسين على الخطابة وإلقاء المحاضرات، تطرق لفكرة أن استخدام المصطلحات الصعبة ونادرة الاستخدام، يعطي انطباعا للمتلقي بأن المتحدث متمكن وعالم في مجاله، فكانت نصيحته لي بأن أصعب المصطلحات وأستخدم كلمات أجنبية أكاديمية، حتى أبهر المستمعين وأسلب ألبابهم، فعلا وقع الكلمات الصعبة تعطي هذا الانطباع، فمن عادة الإنسان الاعتقاد أن الأشياء الصعبة هي على مرتبة عالية من الجودة وأن من يلقيها شخص عظيم، وهي كقيام شخص باختيار المنتج الأغلى لاعتقاده أنه الأعلى جودة، وفي الغالب لا يكون بحاجة لهذه الجودة، ولن يستطيع استخدامها بالطريقة المثلى، بل أحيانا كثيرة تكون غير مناسبة له، بينما نصحتني دكتورتي اليابانية المسؤولة عن بحث التخرج، بأن أستخدم اللغة البيضاء قدر المستطاع وألا أخرج عنها إلا للضرورة، وحين الاضطرار لاستخدام هذه المصطلحات يجب أن أشرحها شرحا كاملا وكأن المتلقي لا يعرف عنها شيئا.
نصيحتان متعارضتان، الأولى تهدف الى أن ترفع من مكانتك لدى المتلقي، والأخرى تهدف الى رفع مكانة المتلقي، بأن تزيد من معلوماته ومعرفته في مجال المحاضرة.
من ناحية أخرى، نجد أنه خلال مرور أوروبا في عصور الظلام الكثير من الأفكار الجميلة التي أنتجها الفلاسفة والمفكرون، لكنها كانت مغيبة عن رجل الشارع الأوروبي، ويصعب عليه فهمها لما فيها من مصطلحات غير متداولة باللهجة المحلية، فظلت هذه الأفكار حبيسة الكتب، لا يقوم بتداولها إلا قلة من أفراد المجتمع الذين كانوا ينظرون الى رجل الشارع نظرة استعلاء وتحقير، فجاء الأدب ليقف بالمنصف، ويقوم بتسويق هذه الأفكار الفلسفية صعبة الفهم، لينقلها على شكل مسرحيات أو شعر وروايات، لتصبح سهلة ومحببة لكل الناس، وعندها دخلت أوروبا لما سمي لاحقا بعصر النهضة وتقود التطور في العالم.
في العالم الحديث قد تكون مواقع التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأكثر تأثيرا وانتشارا، وهي المرشح الأقوى لأن تحل مكان الأدب بنقل الأفكار الإيجابية والجميلة، لكن الملاحظ في النسخ العربية منها هو وجود عزلة بين من يحملون هذه الأفكار والمتلقين، وغالبا يكون السبب في ذلك هو استخدام المصطلحات الصعبة والتفنن في تصعيب المعلومة على المتلقي، كنوع من التسويق للنفس بأنه شخص مفكر عظيم، ولكن في النهاية لا يستفيد المتلقي من هذه المعلومات بل وتصل لمرحلة أن تصبح (علماً لا ينفع)، ونتيجة لهذا أصبحت هناك فجوة وعزلة اختيارية بين الطرفين، فقام حاملو الفكر الرجعي والعلوم المزيفة بملء هذه الفجوة بطريقة ذكية تحاكي غرائز الإنسان وليس عقله، وما هذا المقال إلا دعوة لتبسيط المعلومات وعرضها بشكل يفهمه الصغير قبل الكبير والجاهل قبل المتعلم.