الحنين شعور متأصل في الذاكرة الإنسانية ومكمل لها، وهو نافذة ضرورية في جدار الحاضر المحيط بنا.
وفي ظل المتغيرات التي نعيشها اليوم، تنحصر مفاهيم السعادة، والبساطة، والجمال، في جرعات منشودة من الحنين.
الصحف الورقية صارت على مر السنوات جزءا لا يتجزأ من طقوسنا الصباحية اليومية، من فم الورقة نسمع الأخبار سواء السياسية أو الثقافية أو المحلية، بالإضافة إلى أخبار المجتمع وتحقيقات صحافية شائقة ومقالات للعديد من الكتاب، حيث تشعر بأن هناك من يسكن في داخلك برائحة الورق العطرة ولا أفخم العطور.
ما قبل التكنولوجيا والصحف الإلكترونية والمواقع الإخبارية كانت تتهافت الأيدي ويتسارع الناس لقراءة الصحيفة فهي غذاؤهم اليومي، لكنه غذاء ثقافي، دسم بالأخبار الجديدة والمثيرة غذاء روحي، فيه المفيد والنافع، الصحف والمجلات كانت لها ميزانية من ميزانية البيت «ميزانية الثقافة».
أنا من جيل اكتسب معرفته الثقافية والإنسانية من الصحيفة الورقية والمجلات والكتاب وليس من العم «غوغل»، والصحافة مهنة جميلة تسحر الإنسان.
أحببت أن أتعلمها وأطور أدواتي اللغوية وحصيلتي المعرفية، وأسلوبي في التعبير، كي أكون مقنعة لحراس بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة) كي يسمحوا لي بالدخول إليها، أذكر أني دخلت دورة الصحافي الشامل برعاية جريدة «الأنباء» والأكاديمية الدولية للإعلام والهيئة العامة للقوى العاملة، والتقيت بالصحافي د.أحمد أبوسيدو «شيخ الصحافيين» كان المشرف العام على الدورة ولمدة 3 أشهر، ولهذا المعلم الفضل الكبير فيما أنا فيه اليوم، فله كل الحب والشكر والتقدير، فقد كان معلمي ومازال وأسعد دائما بنصائحه وثنائه.
فقد أعطانا من خبرته بكل حب خلال تلك الفترة، واستفدت من إصداره «موسوعة العمل الصحافي وأخلاقيات المهن الإعلامية» فوضع فيه عصارة خبرته وأفكاره.
علمني هذا الرجل العاشق لمهنته التأثير والإقناع هما عاملا نجاح، وعند كتابة العمود أو المقال أن تبدأ بما يأتي على لسانك فورا «الجملة التي تشوفها قولها» مع الرؤية الوصفية للمكان وان كانت المساحة التي تكتب فيها صغيرة، الرشاقة في الأسلوب والقدرة على التعبير عن الموضوع الصعب بأسلوب سهل، مع محافظتك على إنسانيتك.
جمعنا بأساتذة كبار في الإعلام والصحافة والسياسة والسلك الديبلوماسي ومثقفين وأدباء، مدارس وتجارب شخصية جامعة كاملة استطاعت أن توسع دائرة التعايش المعرفي والإنساني لديّ، فمن الطبيعي أن نجد الكثير لنتعلمه من خلال قصص نجاحات وإخفاقات الآخرين. كان لا بد أن استذكرك في هذه اللحظات من الحنين لزمن الصحف الورقية وأنت من روادها وأهم الصحافيين في جريدة «الرأي العام».
تبقى الصحف الورقية ذات بريق أخاذ، فنقرأها على تمهل وبأي وقت ونحن في حالة استرخاء بدلا من أن نكون تابعين لجهاز، ونحتفظ بالمقالات التي نرغب بها ورقيا ونعمل منها أرشيفا، هي دائما متوافقة مع الطبيعة البشرية والإنسانية.
هل يتخلى الإنسان عن تاريخ طويل من الثوابت التي عاش عليها من التراث الإنساني الرفيع، ويترك أجياله القادمة لما يسمى «التكنولوجيا» أم سرعان ما تعود الإنسانية أكثر رحمة وإبداعا؟ قد يبقى دور الصحافة لكن هل تحفظ الأجيال الجديدة شيئا من تراثها القديم؟
أعتقد أن أهم ما يجب أن نقوم به في هذا المقام هو فقط التقاط صورة تذكارية إلى جوار حامل الصحف في منافذ البيع، لأن الأجيال القادمة لن ترى مثل هذا المشهد بعد الآن، وتبقى الذاكرة هي اللاعب الرئيسي الذي يلعب في نفس الوقت دور مخزن الرؤى، والذكريات، ودور قائد الأوركسترا.
ستبقى الصحف الورقية دائما بوصلة إنسانية للقراء أمام هذه التكنولوجيا العبثية، ونبقى نحن حصيلة تجارب صحافية عميقة وصحافيين كبار وكتاب.
٭ عز الكلام: ما أصعب تخيل لحظة حنين من دون تذكير حسي يطرق أبواب الذاكرة ويستخرج مكنونها، إلا أن كل شيء موكل إلى قوانين الزمن وأبدية التغيير!
[email protected]
Nesaimallewan