الإنسان بفطرته السوية البشرية يفضل العيش في البيئة الجماعية عنها في البيئة الفردية، فهو لا يستطيع أن يبقى وحيدا في دنيا خالية من الروح البشرية، ذلك كأناس تجمعهم مواثيق الصداقة والأخوة والمحبة فيتزاورون ويسعدون ويبتهجون مع بعضهم البعض، وأهل ومعارف وأقارب وجيران يساند كل منهما الآخر في السراء والضراء، لذلك كل من في هذه المعمورة يحتاج أن يكون في بيئة جماعية حتى يصبو إلى ما يريد الوصول إليه، فيتغذى عقله وروحه وجسده فيكتمل بذلك النقص في حياته الفردية باجتماعها مع الجماعة وحب الجماعة.
فبالجماعة يساند القوي الضعيف، ويرأف الغني بالفقير، ويشفق العالم بالجاهل، ويعطف السليم على السقيم، والكل منا يأخذ ويعطي، فتكتمل الحاجات وتلبى الطلبات ويعم الاستقرار والسلام في العقل والقلب والبيت والمنطقة والبلد والدولة فالعالم فالكون، قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة وسط الجنة فليلزم الجماعة».
كما انظر إلى هذا التشبيه والتمثيل الرائع أيضا الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، أي إذا اشتكى أي عضو من أعضاء الجسم، يستدعي باقي الأعضاء بعضهم بعضا ليسهروا ويقوموا على العضو المصاب، فلا يهنؤون ولا يستريحون ويكون الجسد كاملا في حالة عدم استقرار، حتى يصح ويتعافى ويرجع إلى طبيعته السوية.
لذلك ما تلبث البيئة الجماعية أن تفقد عنصرا واحدا من عناصرها إلا ويقع الخلل بهيكلها وميزانها حتى يؤثر على بقائها، ولن يكون هناك استقرار ولا أمان ما لم يكن هناك التوافق والوئام في عناصر هذه البيئة، وذلك كالجسد الواحد ما لم تتكامل جميع أعضائه من أيد وأرجل وأعين وجميع الأجهزة المكونة لهذا الجسد كي يبقى ويستقر وإلا سيكون صعبا أن يؤدي وظائفه وأعماله بالشكل الذي يجب أن يكون من الجسد السليم.
وما كانت دعوة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أن تكون دعوة ما لم تكن هناك جماعة ليتم دعوتهم وإدخالهم في قارب النجاة بإيمانهم بالله والتصديق به وبرسله، وما كانت دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أن تبقى لها باقية ما لم يأت الله بنصره بملائكته وجموع صحابته وجيوش المسلمين، فيفتحون بذلك أصقاع الأرض من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، فبقاؤهم تحت راية واحدة، راية عقيدة وفكر ومنهج وتوحيد واحد، هو الذي أكسبهم النصر والتوسع ودخول الشعوب من جميع الأمصار إلى دين الله أفواجا.
فيا ليت كل شخص منا يتفكر في نفسه وعائلته ومجتمعه وحتى في عمله بأن يرجع إلى حب الجماعة ويتمسك برباط الإخوة ويبتعد عن البغضاء وعن معانيها وعن الحسد والعداوة والتربص لفرصتها، ويتجنب سوء الظن في القلب على الخلائق، وان ننزع من قلوبنا الكره والحقد والخبث والكبر، ونرجع إلى كتاب الله وسنة نبيه، وكما أرشدنا بقوله سبحانه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهنا يخبرنا بأن التغيير المصيري والذي يقدره الله لنا لا يأتي إلا من بعد أن نغير ما بأنفسنا تغيرا حقيقيا وواقعيا وليس ألسنا تنطق ولا تعمل، تغيير في القلوب المؤدي إلى التغيير في النوايا والسلوك والتصرفات.