الحقيقة هي الشيء الثابت يقينا، وكثيرة هي الحقائق حولنا، ولكننا لم نر في هذه الدنيا حقيقة ليس بها أدنى شك مثل الموت الذي ليس به مهلة، وعلى الرغم من أنها سنة الحياة إلا أنها محزنة ويخافها كثير من الناس، أما ما سوى الموت فهو قابل للزوال والتغيير فالحياة تنتهي بمشيئة الله والشاب يشيب وكل بداية على أثرها نهاية، وما هذه الحياة الدنيا إلا وهم ومحطة عبور لما بعدها، وهذا الموت الذي نخافه يعرفنا حق المعرفة بأسمائنا بقدر جهلنا له، ومن خلال الموت نتحول من حال إلى حال، وننتقل إلى العالم الأوسع وهو البرزخ (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) «سورة: ق»، ومع علمنا بهذه الحقيقة الثابتة نحاول جاهدين نسيانها والغفلة عنها ولات حين مناص:
هو الموت لا منجى من الموت والذي
تحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ربما تعددت أسباب الموت وتنوعت ولكن النتيجة واحدة، وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أكثروا ذكر هادم (قاطع) اللذات» فالإكثار من ذكر الموت والتفكر فيه يجعلنا نحسن العبادة ونتقي الذنوب ونتقرب إلى الله، فأفضل الناس من لم تغب عن باله خاتمته ومآله، وأحمق الناس من نسي خاتمته وآخرته. اشتكت امرأة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها، فقالت لها: أكثري من ذكر الموت يرق قلبك. ومات ابن لمعاذ بن جبل رضي الله عنه بالطاعون فصبر واحتسب ثم ماتت له ابنتان وهو على حاله صابرا محتسبا، ثم طعن في إبهامه فظل يقلب كفه وهو على فراش الموت ويقول لمن حوله: هي احب إلي من حمر النعم، ثم يغمى عليه ويفيق ويقول: ربي غم غمك، فإنك تعلم إني أحبك، ثم نظر إلى من عنده وقال: انظروا هل أصبحنا؟ فقالوا: لم نصبح، ثم أغمي عليه وأفاق وأعاد سؤالهم: هل أصبحنا؟ فقيل له: قد أصبحت، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، مرحبا بالموت حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. هذا حال معاذ بن جبل الذي يأتي يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة فكيف بنا نحن المقصرون؟! روى ابن عساكر بسند متصل أن ملك الموت جاء إلى النبي نوح عليه السلام فقال له: يا نوح ويا أكبر الأنبياء، كيف وجدت الدنيا؟ قال: مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا. وكما ترون فالموت لا يفلت منه أحد فلنكن على أهبة الاستعداد لهذه الحقيقة الثابتة.. ودمتم سالمين