ألف أحد العلماء كتابا كبيرا في أحد العلوم، ولم يرض أن يتم نسخه أو الأخذ منه إلا بمقابل كبير، فأتت عليه الأرضة فأكلته ولم يستفد من كتابه.
# علق العلماء على الحادثة بأنه جوزي على بخله بعلمه، بأن ذهب واندرس ما كتب.
# وقال بعضهم: إنه على قدر ما تنشر يفتح الله عليك، ويبارك لك في ما تملك من علم ومعرفة.
معرض الكتاب شرع أبوابه، والقلوب المحبة للقراءة متطلعة لما هو جديد عليها من كتب قديمة كانت أو جديدة، تجد نفس هذا التطلع وزيادة عليه خوفا وترقبا من المؤلفين والكتّاب، فالليالي التي سهروها، والأيام التي قضوها، والجهد الذي بذلوه في الكتابة والمراجعة والتنقيح والتلقيح والتنصيص قد أخذ منهم الكثير من الطاقة والوقت، وها هم الآن يتحينون الفرصة ويترقبون الساعة التي قد تكون عند البعض ساعة الانطلاق والانتشار، وقد تكون عند البعض ساعة الانكسار والانسحاب.
هموم الكاتب تفوق هموم القارئ، فالكاتب الجيد يجلد ذاته على كلمة قيلت وطبعت وخرجت للعيان ثم تبين له عور وخطأ ما كتبه، الكاتب يحسب حساب الحرف والكلمة فكيف الجملة؟! فهو مدين لنفسه قبل الآخرين أن يقدم مادة تليق بهم لأن الساحة مليئة بكل ما هو مطروق ومكدسة بكل الفنون والعلوم، الكاتب يعيش قلقا متواصلا قبل وأثناء وبعد طباعة كتابه، فالكتاب هو صوته الصامت، وبوحه الخفي، وإعلانه المستتر، الكاتب زلته محسوبة عليه، فهو يحاكم على كل كلمة قالها حتى بعد وفاته، فالكتاب لا يموت وإن مات صاحبه.
أما القارئ فهو غير معني بجلد ذاته، فهو ينتقل بين الكتب كما ينتقل أحدنا بين القنوات التلفزيونية، القارئ يهتم بالمجمل ولا يهتم بالتفاصيل أحيانا، القارئ سريع في إطلاق أحكامه، فكم من كاتب أصبح عنده بالقائمة السوداء بمجرد قراءة نص رديء له.
جالست الكثير من الكتّاب والمؤلفين، وبعضهم باح لي بهمومه وأحلامه التي لم تكتمل، هموم الكاتب كثيرة فمن دور نشر مستغلة، إلى مردود مادي لا يذكر، إلى أحكام قاسية من القراء، إلى تكدس الساحة بالكتب والمؤلفات التي أخفت جمال النافع منها.
هموم الكاتب كثيرة، فليس كل الكتّاب لديهم القدرة على تسويق ما كتبوه، وليس كلهم يملك العدد الهائل من المتابعين لإخبارهم بآخر مستجداتهم، وليس الكل عنده القدرة على الوصول للمعنيين والمسؤولين، فالأبواب لا تفتح للجميع.
الكاتب الحقيقي قلمه سلاحه، وكتاباته طريقه، ومعارض الكتاب ميدانه، للوصول والانطلاق والانتشار.
الانتشار هبة ربانية صرفة، تعطى وتمنح لأشخاص لحكمة إلهية، وتمنع وتصد عن أشخاص آخرين، لحكمة إلهية أيضا، ولنا في «أبوحيان التوحيدي» خير مثال.
الكاتب عبارة عن نعمة ربانية ساقها الله عز وجل للبشرية لتخط وتكتب ما يجول بخواطر الخلق لتكون بمتناول الخلق، فكما أن لغة التعبير لا يحسنها الكل، كذلك لغة الكتابة لا يتقنها الجميع.
الكاتب هو الموثق والراصد والمؤرخ لما دار في أزمان غابرة، ولما يدور في الوقت الحاضر، ولما هو متوقع أن يحدث في المستقبل.
الكاتب هو الشمعة التي تحرق نفسها لتعطي للآخر لذة الاستمتاع بالكلمات، والشعور بدفء العبارات، والأمل بصدق «السرديات».
الكاتب الحقيقي هو قيمة بحد ذاته، الكاتب الحقيقي هو الذي يطوع الفكرة لقلمه ويصوغ العبارات التي تخدم فنه، الكاتب الحقيقي هو الذي يؤثر ولا يتأثر ويغير ولا يتغير ويحرك المياه الراكدة، وهو الذي لا يتزحزح عن إيمانه ومعتقداته.
هموم الكاتب وهموم القارئ تدور وتتمحور حول الكتاب، فلديهم مشتركات كثيرة، فبذل الوقت والجهد يشتركون فيه، وبذل المال وإنفاقه سبيلهم للتحصيل، والرغبة الجامحة هي الدافع لهم للاستمرار فيما هم فيه.
الكاتب والقارئ، الأول ينشر المعرفة والآخر أرض خصبة لاكتسابها، الأول يبذر البذرة، والآخر قد تنبت في أرضه وتخضر. الأول ناقل والآخر مكتسب.
هموم الكاتب لا تنتهي، فهو مطالب بإصدارات أخرى، ومطالب بالتجديد في خطابه، ومطالب بأن يجد مصادر للدخل حتى يستمر في مجاله، ومطالب بأن يكون موجودا في الساحة دائما وإلا خفت بريقه.
الذي دفع العالم بالعصور الماضية إلى أن يخفي فنه هو رغبته في التميز والانفراد عن أقرانه، فعوقب بحرمانه مما يصبو إليه.
وهي رسالة للكاتب الحالم الذي يطمح إلى أن يصل ويتميز ويقدم بالمجالس بوصفه كاتبا متمكنا، أن ينشر فنه، ويجعله بالمتناول، وألا يرفع الأسعار، وأن يهتم بالمحتوى أكثر من الغلاف، وأن يكون متواضعا كلما ذاع صيته وعلا اسمه، وأن يعلم أن ما ينفع الناس سيمكث بالأرض.
[email protected]