يقال «في التخلي التجلي»، وهو أن نخلي قلوبنا من التعلق بأمور لا جدوى منها ومن الشواغل والمشاغل ومن كل ما هو قبيح، ونحلي قلوبنا ونجملها بصفات عالية من التوكل، ومن الحب في الله، ومن الاعتماد على الله، ومن الثقة بما عند الله، وبكل ما هو صحيح.
فإذا حلى القلب بالصحيح، وخلت النفس والجوارح عن السيئات وعن كل ما هو قبيح، وامتلأ القلب بتلك المعاني الفائقة الرائقة، فمعظم مشاكلنا وعذاباتنا في هذه الحياة ستنتهي، والتي غالبا ما يكون سببها هو تمسكنا وتعلقنا بفكرة أو مخاوف أو أمور متعلقة بالماضي لا معنى لها أو ذكريات مؤلمة او احداث سيئة... إلخ.
فسر الراحة يكمن في فن التخلي.. أن نتخلى عن كل ما يكبلنا، ان نتخلى عما يؤذينا ويؤرقنا، ان نتخلى عن أمور وأفكار كثيرة سواء كانت مادية أو معنوية نسجناها في خيالاتنا، اعتقدنا ان سعادتنا لن تكون إلا بتشبثنا بشدة بها، ان نتخلى عن تلك القيود التي فرضناها نحن على أنفسنا.
فسر الراحة يكمن في أن نعرف ما الأشياء التي يجب علينا أن نتخلى عنها والأشياء التي يجب أن نحتفظ ونتمسك بها، فقد أصبح معظمنا اليوم للأسف لا يريد أن يتخلى عن أبسط الأمور وإن كانت لا تستحق، وصار يتمسك بها وان كانت لا تعود عليه بفائدة أو قيمة تذكر..!
لذلك قيل.. في التخلي التجلي، أي عندما تتخلى وتنهي شعور الحاجة والتعلق، فستستشعر بالوفرة والاكتفاء والامتنان لكل ما تملك، ستزدهر حياتك، سترتفع مشاعرك، ستتخلص من التوتر والقلق، وستعوم بحالة من الرضا والسعي والثقة والسلام.
ولا يعني بالتخلي أن تترك كل شيء وتبتعد عنه، لكن فكر، تخيل، وخذ خلوة تبتعد بها عن العالم الخارجي لينقشع الضباب عنك ويتضح المعنى، ولترى نفسك وماهيتك في الوجود بوضوح، ان ترفع استحقاقاتك، ان تحب نفسك وتشعر بأنك خلقت ولا حدود لوفرة الكون التي خلقت لك، ان تحسن التوكل على الله.
ففي التخلي قوة تفوق قوة التمسك احيانا، ليتجلى فيما بعد ما أردته وفي وقته المناسب لك.
كما ان التجلي هو ان نتخلق بآيات الله تعالى وبمن اختاره سبحانه لحمل رسالته للعالمين ايضا، والذي كان نموذجا مثاليا حيا للإنسان المتزن والفاضل قيميا، فقد كان ﷺ الينبوع الزاخر والمتدفق بالقيم الأخلاقية، حلاه بها المنان وبعثه لينشر شذاها بين الخلائق، ومن بين أهم القيم الأخلاقية والتي من المفترض ان نتخلق بها،
الرحمة، كان ﷺ رحيما بأمته وشفيقا عليها أكثر من شفقة الأم على ولدها، وقد تجلت هذه الرحمة في مظاهر كثيرة، بل وكان أرحم الناس بالناس وأرأفهم بهم، الحق والعدل: فعدله وسع الجميع بإنصاف، لأنه وزن بالحق وأقام بالقسط، الحلم والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره: لقد كان أبعد الناس عن الغضب وأسرعهم رضا، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، إلا هو ﷺ لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرا، الجود والعطاء والبذل: يده سخية لا يتردد عن الإنفاق، فما سئل ﷺ عن شيء إلا أعطاه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان أجود الناس بالخير من الريح المرسلة... إلخ، وهكذا يصبح الإنسان في رضا عن الله.. عنده تسليم تام بقدر الله، فيخرج من دائرة الحيرة إلى دائرة الرضا.
وما أعنيه هنا ليس التخلي عن أهدافك وأحلامك، ولكن امض في هذه الحياة، دون انتظار، دون تعليق رحلة حياتك في محطة واحدة فقط، اسمح لنفسك بأن تتحرر من قيود التعلق، اسمح لكل المشاعر بأن تتحرر أيضا إلى أن يحين الوقت الذي قدره الله لأمنياتك أن تتجلى.