قبل أسابيع قليلة مضت قام الزميلان المبدعان الشاعر الغنائي ناشي الحربي ورسام الكاريكاتير عبدالرضا كمال بزيارتي في بيتي، وبتلك الزيارة الودية المباركة اجتمعنا من جديد من بعد اتون الماضي البعيد، وارجعنا منها الذاكرة الى الوراء كشريط فيلم سينمائي الى فترة ما قبل الغزو الصدامي البغيض لديرتنا الحبيبة في تسعينيات القرن الماضي!
رجعت بنا الذاكرة الى الوراء رغما عنا، وناقشنا فيها كثيرا من امور الصحافة الجميلة في ذلك الوقت الجميل، من حيث الكتابة والرسوم، والصور والمواضيع، والعالمين فيها من كل الاجناس، وعن حب العمل والتفاني فيه، وصدق النوايا والتضحيات والوفاء وشفافية الامور، وغيرها من المثالب الطيبة التي كنا نتمتع بها بامتياز واقتدار!
وفي المقابل تذكرنا ايضا، ماذا اعطتنا الصحافة من امتيازات وقيم ومعرفة، وماذا علمتنا، وهي التي لم تبخل علينا يوما بالمعنويات ولم نبخل عليها بالابداعات، فقد كانت عطاءاتنا متبادلة، وكل منا كان يأخذ اجره كاملا من الله ثم من اصحاب الصحف في وقت واحد، عرفناها وعرفتنا وسربنا أغوار بعضنا البعض، وغصنا الى الاعماق وانتشلونا الناس من الغرق، وانعشونا ليعرفونا، لان الصحافة كانت هي الوسيلة الاعلامية الوحيدة المؤثرة والاكثر انتشارا بين الناس في ذلك الوقت، والتي تشهر الناس المبدعين، ويشهرونها الناس الصادقون، عندما كانوا يقبلون عليها ويشترونها يقرأونها بشغف!
ايام الصحافة الجميلة تلك ـ اعتقد ـ انها ولّت ولن تعود من ادراجها لادراجها من جديد، كحال كل التغييرات التي طرأت في كل الامور الحياتية والمعيشية والسلوكية والنفسية، حتى في النوايا ومعرفة الغير!
في لقاءنا في تلك الامسية الجميلة التي جمعتنا، ضحكنا كثيرا، وفرحنا كثيرا، رغم غصة الألم التي كانت مرسومة على وجوهنا، والتي كانت تبتسم عبثا بحسب المواقف التي كنا نمر بها، لاننا وبدواخل انفسنا كنا نشعر كمن افتقد عزيدا تذكرناه للتو ونحن ندري أنه لن يعود الينا ليكون بيننا كما نرغب!
اذكر ضمن المداعبات التي صاحبت ذلك اللقاء المشترك، تطرقنا لقصائدنا ولرسوماتنا الكاريكاتيرية ولكتاباتنا والى كل بداياتنا، كيف كانت وكيف اصبحت حتى انبرى ناشي الحربي، ومن دون مقدمات وخاطب عبدالرضا كمال وبطريقته وعتابه المحبب وقال له: «ما تقول لي، انت متى راح تشيل الفأر المقزز من توقيعك؟!»، نظر اليه عبدالرضا بذهول ثم رد عليه بأسلوبه الضاحك وقال: «كيفي.. وليس بس انا اللي دايم انزّف، ومو عبدالسلام اللّي كان حاط قنبلة اشكبرها جنب توقيعه!!».. وبذهولي ايضا وبطريقتي وبثقة نفس زائدة رديت عليه وقلت: قنبلتي فجرتها من زمان وتناثرت اشلاء ولم تصب احدا بأذى، وغيرت توقيعي على ما هو عليه الآن، وذلك ضمن التغييرات التي طرأت علينا.. وأنا لم اتغير!
طأطأ عبدالرضا برأسه قليلا، ثم رفعه بشموخ ونظر امامه وسرح طويلا وسيجارته بفمه، وبعد ان اخذ نفسا عميقا قال لنا: افكر.. ولم نأخذ مسألة تفكيره بموضع الجد، واكملنا احاديثنا الى وقت متأخر من الليل، حتى سرينا ونسينا!
لكن بعد ايام لم تطل، واذا بي اتلقى رسالة نصية عبر هاتفي النقال، وكان محتوى الرسالة يقول: «تم بحمد الله، الاستغناء عن الفأر الذي كان يصاحب توقيعي الذي اذيله بلوحاتي بعد 40 سنة».
وهكذا بعد نقاش قصير، وبعد عمر طويل لذلك الفأر المعزز والمكرم بالرسوم، انهى عبدالرضا كمال حياة فأره بكبسة زر هاتفه النقال، واختفى كليا عن كاريكاتيراته التي اصبحنا نراها يوميا من غير الفأر، وكانت مأساة اكثر كاريكاتيرية من المآسي التي صرنا نراها في صحافة اليوم!
«ليش يا ناشي الحربي، حربك بس على فأر عبدالرضا ومو عليه أُهْوَ؟!».. للصداقة احكام!