اتجهت الأزمة الأوكرانية الى مزيد من التعقيد والتصعيد مع طلب سلطات شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا الانضمام الى روسيا وإجراء استفتاء حول الأمر في 16 مارس الجاري.
وتوقعت مصادر نيابية روسية أن تقول موسكو كلمتها بعد ظهور نتائج الاستفتاء.
في حين حذر الرئيس باراك أوباما من أن تنظيم الاستفتاء «سيمثل انتهاكا للقانون الدولي وللسيادة الأوكرانية». وواصلت سلطات القرم تدابيرها لحسم الانفصال عن أوكرانيا، وأسست هياكل وأجهزة أمنية ونيابية ووزارة للداخلية، كما باشرت إجراءات التداول بعملة الروبل الروسية، وأعلنت عزمها تغيير التوقيت المحلي ليتطابق مع توقيت موسكو.
لماذا احتلت «القرم» واجهة الحدث والمشهد في الأزمة الأوكرانية؟ أين تكمن أهميتها الاستراتيجية؟ ولماذا كل هذا الاهتمام الروسي بها؟ ولماذا اتجهت القوات الروسية فورا الى شبه جزيرة القرم بمجرد سيطرة الأوكرانيين الموالين للاتحاد الأوروبي على كييف؟ الجواب في الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي المهم لشبه الجزيرة بالنسبة لوزارة الدفاع الروسية فآخر ما ترغب في رؤيته موسكو قاعدة ما لدول حلف شمال الأطلسي في تلك النقطة الرئيسية الواقعة بين البحرين الأسود وآزوف. فعبر القناة التي تفصل بينها وبين الشاطئ الروسي تبحر السفن الروسية الخارجة من آزوف الى الأسود.
ولعل أبرز الدلائل على أهمية تلك البقعة على الخريطة السوفييتية كان احتضانها مؤتمر يالطا الشهير قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث استضاف زعيم الاتحاد السوفييتي حينها جوزف ستالين حليفيه في الحرب ضد النازية الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، وتداول الثلاثة الكبار في ذلك المؤتمر عملية تقسيم الدول الأوروبية إثر سقوط أمبراطورية أدولف هتلر.
هذه الأهمية الاستثنائية التي توليها روسيا لشبه جزيرة القرم تجلت في الضغط الذي مارسته موسكو على كييف بمجرد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي لمنح القرم حكما ذاتيا ضمن الجمهورية الأوكرانية.
واللافت أن إدارة القرم وجهت رسالة إلى الحكومة الأوكرانية عام 2009 رفضت خلالها طلب كييف فتح قنصلية أميركية في شبه الجزيرة، وفي تلك الخطوة دليل كاف على مدى نفوذ روسيا في القرم.
وتحظى اليوم مدينة سيفاستوبول الواقعة على شاطئ القرم الجنوبي الغربي المطل على البحر الأسود بأهمية خاصة لدى الروس والأوكرانيين على السواء كونها تحتضن قاعدة كبيرة لأسطول البحر الأسود الروسي وأيضا قاعدة بحرية أوكرانية.
تبلغ مساحة شبه جزيرة القرم 27 الف كيلومتر مربع ويبلغ عدد سكانها حوالى مليوني نسمة 58% منهم من أصل روسي و28% أوكران و12% مسلمون تتار، والباقون من الأقليات البولونية، والآذرية، والروس البيض، وغيرهم.
شبه جزيرة القرم غنية بالمعادن، والنفط والغاز، والفحم الحجري والنحاس، ويقع فيها أهم مرفأ على البحر الأسود وهو مرفأ مدينة سيفاستوبول الذي يتموضع فيه الأسطول الروسي.
وتقع فيها يالطا إحدى المدن التاريخية التي جرى فيها توقيع المعاهدة الشهيرة بين ستالين وروزفلت وتشرشل في شباط من العام 1945.
القرم هي أرض التتار تاريخيا، بلغ عدد سكانها حوالى ستة ملايين نسمة في العام 1886 وتقلص هذا العدد إلى 850 ألف نسمة في العام 1941 وإلى 450 ألف نسمة في العام 1946 بسبب عمليات القتل والتهجير التي مارسها ستالين ضد التتار.
اليوم وفي ظل الموقف العنصري الأوكراني كما يروج الروس، تنتعش في ذاكرة الروس الأوكران الأصول التاريخية الروسية لشبه جزيرة القرم وقد يذهبون بسبب ذلك إلى الدعوة للانفصال عن أوكرانيا التي تتشكل من 24 محافظة وجمهورية ذات حكم ذاتي هي جمهورية شبه جزيرة القرم. وقد دعت حكومة شبه الجزيرة إلى استفتاء على الانفصال أو على توسيع صلاحيات السلطات المحلية في 30 من مارس الجاري مستبقة بذلك الانتخابات الرئاسية الأوكرانية المبكرة المقررة في 25 مايو المقبل. وقد تحذو حذوها المناطق الشرقية من أوكرانيا.
هذا الخيار قد يكون آخر الدواء بالنسبة لبوتين وإدارته من أجل الحفاظ على المنفذ الأساسي لروسيا على المياه الدافئة في البحر الأسود والبحر المتوسط عبر مرفأ سيفاستوبول.
لكن سلوك هذا الخيار يجب ألا يغفل النتائج الخطيرة جدا على وحدة الأراضي الروسية نفسها. فإن انفصال القرم عن أوكرانيا سوف يشكل سابقة خطيرة تثير شهية الانفصاليين في القوقاز.
من هنا يسود الاعتقاد بأن بوتين قد يساير هذا الاتجاه الانفصالي تكتيكيا بهدف البحث مع السلطة الأوكرانية، مع تفهم أوروبي وأميركي، عن ضمانات لتواجد الأسطول الروسي في البحر الأسود. لكن هناك في الجهة المقابلة بعض الاتجاهات الروسية التي تريد حسم المسألة الأوكرانية بالضربة القاضية ليس عبر دعوات انفصال مناطق الجنوب والشرق عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا بل عبر السيطرة المباشرة على قرار كييف حتى ولو احتاج ذلك إلى استخدام القوة، مندفعين في هذا الخيار من خلفية أن الولايات المتحدة تحديدا والاتحاد الأوروبي تاليا ليسا في وارد المجابهة العسكرية مع روسيا على الأراضي الأوكرانية.