لم تصح التوقعات التي «حيكت» حول اطلالة الرئيس ميشال عون الثالثة منذ انتفاضة 17 اكتوبر الماضي، والمختلفة شكلا هذه المرة.
فلم تكن مقيدة بخطاب جامد وإنما بدت متحررة ومتحركة من خلال مقابلة تلفزيونية (أجراها الصحافيان نقولا ناصيف وسامي كليب).
التوقعات كانت تقول إن الرئيس عون سيعطي إشارة البدء في الاستشارات النيابية الملزمة، والتي تعني أن العد العكسي لتأليف الحكومة قد بدأ، وأن توافقا قد حصل على شكلها وخطوطها العريضة.
وفي التوقعات أيضا أن هذه الاطلالة الرئاسية ستضع رئيس الجمهورية على مسافة أقرب من المتظاهرين وأكثر تفاعلا معهم، وستساهم في احتواء غضب الشارع.. ولكن ما حصل جاء معاكسا: الانتفاضة عادت مجددا وبقوة الى الشارع الذي انفجر مرة واحدة من الشمال الى حدود الجنوب، ومن الساحل الى البقاع الغربي، وعادت الطرقات الرئيسية مقطوعة ومعها حالة الشلل العام.. والأزمة الحكومية صارت أكثر تعقيدا وغموضا مع استمرار تعليق الاستشارات النيابية طالما لم يحصل اتفاق على الحكومة الجديدة.
كلام الرئيس ميشال عون كشف وأكد الخلاف القائم مع الرئيس سعد الحريري الذي يريد حكومة تكنوقراط برئاسته، فيما رئيس الجمهورية يرغب في حكومة تكنوسياسية متناغما في ذلك مع موقف الثنائي الشيعي.. وطالما لم يحصل اتفاق على هذه الحكومة، فإن رئيس الجمهورية يبقي ورقة الاستشارات والتكليف في يده ولا يعطيها للحريري حتى لا يذهب الى البيت و«ينام عليها»، ويصبح متحكما بعملية التأليف ويطول أمد الفراغ الحكومي.
أشار عون الى «تردد الحريري» وعدم تلقيه أي جواب منه حتى الآن، وتحدث عن أسباب شخصية لدى الحريري تمنعه من أن يكون رئيسا للحكومة، وأضفى شكوكا على عودته الى رئاسة الحكومة ولم يظهر تمسكا به، ورهن الأمر بنتائج الاستشارات التي تتوقف على «إجابات ينتظرها من المعنيين».. وكذلك الأمر بالنسبة لمسألة استمرار الوزير جبران باسيل في الحكومة التي ظلت غامضة وملتبسة، وأعطى بشأنها الرئيس عون إشارات متناقضة: من جهة قال الرئيس عون إنه يفضل حكومة يكون وزراؤها من خارج البرلمان.. ومن جهة ثانية قال ان باسيل هو من يقرر إذا ما أراد أن يكون في الحكومة أم لا، ويقدر ظروفه ولا يمكن لأحد منعه من هذا الحق أو أن يضع «فيتو» على رئيس أكبر كتلة نيابية.
مجمل هذا الكلام لم ينزل «بردا وسلاما» في بيت الوسط، وإنما ترك استياء لدى الحريري بعدما استقرت الكرة في ملعبه، وحيث إن الاستشارات والحكومة تتوقف على «جوابه وموقفه».. وفي مكان آخر، كان المتظاهرون في الشارع يتفاعلون سلبا مع كلام الرئيس عون ويعتبرون أنه جاء بطريقة استفزازية للمشاعر وإنكارية للواقع عندما قال: «بهذه الطريقة يقضون على لبنان.. والسلبية تؤدي الى سلبية معاكسة، وهذا سيوصل الى صدام لبناني ـ لبناني»، وقال متوجها للمنتفضين: «إذا استمريتم بما تقومون به ستضربون البلاد ومصالحكم ومصالحنا.. إذا استمروا ستكون هناك نكبة والبلد سيموت حتى لو أردنا البناء والمكافحة..».
هذا الموقف الذي حمل الحراك مسؤولية ضرب حق 4 ملايين ونصف المليون بحرية التنقل ومسؤولية تدهور الأوضاع وما سيحدث، مضافا إليه اشتراط انسحاب المتظاهرين من الشارع قبل مناقشة مطالبهم وشروطهم، قوبل بالرفض من الشارع. على أن العبارة التي أشعلت الموقف وجرى توظيفها على نطاق واسع هي التي قال فيها عون: «تفهمنا مطالبكم وهواجسكم، لكن لا تخربوا لبنان وتستمروا بتطويق السلطات الرسمية. وإذا لم يعجبهم أحد آدميا في السلطة يروحوا يهاجروا. ليراجعوا تاريخي وليبقوا معي إذا أعجبهم».
أوساط الحراك ترد النزول الصاخب الى الشارع ليل اول من امس الى الثغرات والمآخذ الكثيرة التي تضمنها الحوار الرئاسي لجهة عدم تقديم تصور وخطة للخروج من المأزق وتأخير بدء الاستشارات لتسمية رئيس جديد للحكومة، ورفض حكومة التكنوقراط، والتملص من الاستراتيجية الدفاعية، وعدم حسم مصير باسيل في الحكومة، وتحذير التظاهرات من العواقب الوخيمة إن استمروا في الشارع.. ولكن الأوساط السياسية، سواء تلك التي تدور في فلك رئاسة الجمهورية أو المنتمية الى الثنائي الشيعي، فإنها تضع ما حصل في «خانة سياسية» وتنظر إليه بعين الخطورة.
فما جرى لم يكن ردة فعل عفوية على مقابلة الرئيس عون، وإنما كان معدا له ويثبت أن للحراك قيادة وجهات تخطط وتقرر وتنفذ وتفجر الشارع بكبسة زر.. هذا شارع سياسي انفجر ليل اول من امس، وما حصل هو قطع «طرقات سياسية» وتفاوض حكومي عبر الشارع ومن خلاله.. وتحريك متعمد للشارع بالتزامن مع وجود الموفد الفرنسي الخاص في بيروت للتأثير على مهمته ولتعزيز المواقع التفاوضية.