[email protected]
تمضي السنوات مسرعة.. جيل يسلم الأمانة للجيل الذي يليه.. أصبحوا ماضيا، كما أصبح الحاضر حاضرا، أما المستقبل فبعلم الغيب.. ولكن يظل لكل زمان أهله وحكاياتهم التي نسجوها.. منها ما كانت البسمة عنوانه وأخرى صاحبت الألم وبعضها عزفت بألحان المشاعر الإنسانية المتنوعة. سلسلة جديدة من الحزاوي ستأخذنا أحيانا للزمن الماضي بكل عبقه الجميل، كما ستحط بنا الرحال في وقتنا الحاضر لنروي حكايات أشخاص حقيقيين ومن جنسيات متعددة، منهم من رواها لي بنفسه والبعض، الآخر وصلني من المقربين منهم أو ممن عاصروهم.. حكايات متنوعة نستقي منها العبر والدروس التي لا تحصى.. وتظل الدنيا حكاية.
الصمت يلف المكان..
يمسح ياسين عرقه وعيناه تجوب الفراغ الذي أمامه..
بهدوء تام قلت له: ماذا حدث بعد ذلك.. أشعر أن بقية الحكاية ستكون أكثر درامية من الأفلام السينمائية.
تنهد ياسين وقال: اذكر ان امي أيقظتني ليلا وطلبت مني الا اصدر أي صوت وأخذتني لغرفتها الخاصة، حيث احتضنني والدي بقوة وطلب مني ان انفذ كل ما تقوله لي أمي وان اكون رجلا.. هززت رأسي بصورة تلقائية.. خرجت مع أمي من البيت ومشينا عبر المزرعة حتى وصلنا الى طاحونة مهجورة وهناك تسلمني خالي.. كان وجه أمي جامدا تماما قالت لي بالحرف الواحد: من الآن وصاعدا يجب ان تكون رجلا لتبقى على قيد الحياة، فلا تخف ولكن تحمل واصبر.
فهمت معاني كلماتها مع مرور السنين آاه كم كانت أمي قوية وصلبة.. أحذني خالي عبر المزارع ركضا حتى وصلنا الى سيارة شحن كبيرة نزل منها رجلان تسلماني وقاما بحشري بين كراتين الجوافة باحترافية عالية بعد أن اوصياني بالصمت التام مهما حدث.. لا اعلم أين ذهبنا وكم من الوقت مضى كل ما اعرفه انهم اخرجاني من مخبئي وأشعة الشمس في ساعات إشراقها الأولى.. هناك شاهدت زوج خالتي يدفع لهما مبلغا من المال ثم اخذني للميناء وسلمني لأحد الاشخاص وامرني بالبقاء معه حتى اصل لأخي رشيد.. كم فرحت بسماع اسم أخي، هذا يعني انه حي يرزق.. ركبت مع الرجل الباخرة الى اليونان وبقينا فيها ليومين بعدها ركبنا الطائرة الى الكويت.
٭ ٭ ٭
وصلت الكويت في مايو 1964 وفي المطار شاهدت اخي رشيد لقد كبر قليلا.. كان لقاء اخويا بمشاعر عاطفية يغلفها الخوف.. وذهبنا لمزرعة العم عبدالرزاق في الفنطاس حيث يعمل ويقيم اخي رشيد.
اخبرني رشيد بأن امي لقنته خطة الهروب بحيث يراه الجميع في أماكن مختلفة وبعدها يختبئ في سيارة خالي الذي قادها الى مكان منعزل وسلمه لرجل أخده للقاهرة..بقى في بيت خالتي لأيام ثم سافر بمعية احد اصحاب زوج خالتي للكويت وعمل في احدى الجمعيات التعاونية ولكن الخوف أتعبه فطلب من العم عبدالرزاق والذي كان من اعضاء مجلس ادارة الجمعية واكثرهم طيبة ان يساعده في البحث عن مكان اكثر أمانا.. تعاطف العم عبدالرزاق مع قصة أخي فأخذه لمزرعته في الفنطاس فأغلب العمال من الجنسية الآسيوية.. شعر أخي بالأمان وأحب العمل في المزرعة والتي تربطه بذكرياته..كان العم عبدالرزاق يأتي دائما للمزرعة احيانا بمفرده واحيانا مع أصدقائه.
مع تغير الجو في شهر نوفمبر حضرت عائلة العم للمزرعة.. كنت أتابعهم من بعيد وأشاهد الاجتماع العائلي فيأخذني الحنين لبيتنا ولأمي.. لا اعرف لماذا هاجت مشاعري بقوة فلم استطع ان احبس دموعي.. جلست على الأرض واخذت بالبكاء.. يبدو ان صوت نحيبي كان عاليا وجذب لي السيدة التي حاولت ان تهدئ من روعي وان تمسح دموعي تعاطفت السيدة معي ولم تتركني حتى هدأت نفسي.. منذ ذلك اليوم اخذتني السيدة لمنزلهم واصبحوا هم عائلتي وابناؤهم اخوتي الذين احبهم ويحبونني
.. وطلبت مني السيدة ان اناديها بلقب امي فضيلة.. لم اشعر ابدا بالغربة بينهم لقد اصبحوا اهلي وعشيرتي.. خصص لي العم عبدالرزاق غرفة بحمامها بعيدة عن غرف خدم البيت كما سجلني في محو الأمية ودرست حتى الصف الأول المتوسط.. لم اكمل تعليمي بمحض ارادتي فأنا لا احب الواجبات والاختبارات المكثفة.. زعلت امي فضيلة وخاصمتني ولكن عقلي لم يتنازل عن قراره.
٭ ٭ ٭
في بيت عمي عبدالرزاق شعرت بالأمان والاستقرار.. رافقت العم في اغلب برامج يومه وأجدت الحديث باللهجة الكويتية ولم يعد هناك من يشك في كوني كويتيا.. اما امي فضيلة فلقد كان حنانها علي كبيرا، اعتبرتني واحدا من ابنائها.. كانت تحرص على الاهتمام بي والسؤال الدائم عني.. كانت تأخذني للسوق وتشتري لي دائما ملابس جديدة وجميلة كواحد من ابنائها.. لم ارتد ابدا ثيابا مستعملة، كانت ملابسي وأغراضي جديدة ونظيفة دائما.. حتى عندما امرض كانت هي من يأخذني للطبيب وتتابع علاجي حتى اشفى، احسست انها امي فتعلقت بها.. عندما تجاوزت العشرين من العمر قام العم عبدالرزاق بتدريبي على قيادة السيارة واشترى لي سيارة صغيرة.. بمرور الوقت اصبحت المسؤول عن العمالة المنزلية وتوفير اغراض البيت والصيانة وعن ديوان العم وترتيباته.. سافرت معهم لدول عديدة ولكنني كرهت التنقلات الدائمة فطلبت ان ابقى في الكويت وأصبحت حارس البيت الدائم.. عند بلوغي السادسة والعشرين من العمر حدثني العم عبدالرزاق برغبته في استقلالي المادي خوفا على من اي ظروف طارئة مع استمرار بقائي في البيت.. تم توظيفي صباحا في الوزارة كمراسل مع استمرار اهتمامي بأعمال البيت المنوعة.
كان اخي رشيد يأتي للمنزل يوم اجازته الاسبوعية ونخرج معا للتسوق او لحضور فيلم سينمائي وغير ذلك.. كانت امي فضيلة تمدني بالمال دائما ولكن اخي يرفض ان ادفع اي مبلغ فهو الكبير والمسؤول.. ظل العم عبدالرزاق يعطي اخي راتبي الشهري حتى بلغت الثامنة عشرة من العمر عندها اخذني للبنك وفتح لي حسابا شخصيا.. لم احتج يوما لهذه الاموال، كانت كل احتياجاتي متوافرة كما كان العم عبدالرزاق وامي فضيلة يعطيانني مبالغ كافية.. لقد اصبح حسابي البنكي كبيرا.. بمرور السنوات كبرنا وتغيرت ملامحنا مما جعلنا اكثر اريحية في الخروج والتعامل مع الناس خاصة وان اشكالنا الخارجية ولهجتنا تعطي الانطباع باننا كويتيين.. لم تنقطع علاقتنا باهلنا فنحن نتواصل معهم عن طريق الهاتف والرسائل واحيانا كثيرة نرفق مع الرسائل صورا حديثة لنا.. جميع الرسائل تذهب مباشرة لعنوان بيت خالتي ولا تخرج منها ابدا وتتسلمها امي عند زيارتها فقط.
٭ ٭ ٭
خلال الغزو العراقي للكويت كنا من المرابطين وانتقل اخي للعيش معي في نفس الغرفة في بيت عمي عبدالرزاق.. حرصنا على ارسال الرسائل مع المصريين الخارجين من الكويت حتى يطمئن قلب امي علينا.. بعد الغزو اصرت امي على رؤيتنا وكان قد مر ثمانية وعشرون عاما على مغادرتنا لمصر.. استجبنا لرغبتها.. كانت فرحة لا توصف وسعادة غامرة..وسيل من المشاعر المضيئة للقلوب.. وكأن ارواحنا جميعا عادت اخيرا لأجسادنا المرهقة.. اسبوع كامل قضيناه مع امي الغالية ولم يشبع احد منا من الآخر.. تكررت اللقاءات..حتى اتى ذلك اليوم الذي اصرت فيه امي على تزويجنا فلقد تجاوزت الخامسة والثلاثين واخي يكبرني بالعمر.. اصرت امي على تزويجنا لترى ابناءنا قبل موتها ولكن كيف؟!.. في قاموس امي ذي المفردات القتالية لا يوجد مستحيل.. وتزوجنا من بنات عمنا في بيت خالتي.. كانت الأمور جيدة فلم يعلم احد في البلد بزواجنا حتى تم الحمل عندها كان لابد من الاشهار مع انتقالهما لبيت والدي ومعها بدأت المراقبة الدائمة لكل تحركات والدتي.. لقد ادرك الجميع اننا على قيد الحياة وان امي هي الخيط لنا.. رزقني الله وأخي بفتاتين جميلتين.. تفننت امي بالألاعيب حتى لا يصل لنا أحد ولكني أعترف بأنها فترة صعبة للغاية ومرهقة لنا عصبيا ونفسيا .. إن شدة المراقبة جعلت لقاءاتنا بأمي وزوجاتنا قليلة جدا وخاطفة حتى اشترى زوج خالتي البيت الملاصق لمنزله لابنه الأكبر وفتح بابا خفيا يربط بين بيته والبيت الثاني وخصص لنا شقة صغيرة بها ولكن الخوف ظل مصاحبا لنا.
سلمت الورقة لياسين وقلت له: لا أستطيع أن أقول لك سفرا سعيدا .. ولكنني أدعو الله أن يحفظكم ويبعد عنكم الأخطار وأن يمد بعمر والدتك .. أخذ ياسين الورقه بصمت وقور ولكن عينيه كانتا تخبراني بالذعر والرعب الذي بداخل نفسه.
بعد حوالي عشرين يوما رجع ياسين من السفر.. بدا متعبا جدا وخسر الكثير من وزنه.. تجاوزت والدته مرحلة الخطر ورجعت لبيتها.. اخبرني بمتاعبهم للهروب من المراقبين من العائلة الأخرى.. بعد فترة من الزمن اتاني فرحا وبشرني بوساطة ضابط المركز لإنهاء موضوع الثأر وان الداخلية المصرية تدخلت ومعهم مجموعة من رجال الدين وانه تم عقد الصلح بين العائلتين..اخبرني وهو يضحك انه يشعر بأانه مولود جديد فبعد هذا العمر سيرجع للبلد ولوالده ولعائلته.. أكدت عليه الا يفقد الثقة بالله أبدا.
٭ ٭ ٭
تحسنت حالة ياسين كثيرا.. حرص على ابلاغي بكل التطورات.. رجع اخوه للبلد واستقر هناك كما اشتريا أراضي جديدة لهما ويقوم اخوه برعايتها.. اخبرني ياسين برغبته في بناء منزل خاص له.
في احد الايام دخل لمكتبي في الساعة الحادية عشر صباحا وبيده صينية شوكولاتة كبيرة.. انها حلو قدوم مولوده الاول.. سألته هل سيغادر الكويت بعد كل التطورات؟
زم شفتيه وراح في صمت عميق ثم قال بصوت متهدج: كيف اترك امي فضيلة..اعلم ان لديها ابناء آخرين وجميعهم بارين بها ولكنني اعجز عن مجرد التفكير في تركها.. لقد كبرت ولم تعد حالتها الصحية جيدة منذ وفاة العم عبدالرزاق.. هل تعلمين كم اتصال تلقيت اليوم منذ ان بشرتها بقدوم صغيري عبدالرزاق - ابتسم ابتسامة عريضه واردف - انها الآن في السوق لقد اشترت ملابس وأغراضا كثيرة وقطعا من الذهب للصغير وامه.. انها تريد ان تسافر معي لرؤية حفيدها الجديد كما تقول.
رفع صينية الشوكولاتة من الطاولة واتجه الى الباب.. توقف قليلا ثم استدار ناحيتي وقال: استاذة سأظل في الكويت ما دامت امي فضيلة على قيد الحياة.. وأتمنى ان تنتظرني أمي الأخرى حتى أعود.