بقلم: أ.د.وليد محمد عبدالله العلي
استاذ الشريعة والدراسات الاسلامية بجامعة الكويت وإمام وخطيب المسجد الكبير بدولة الكويت
إن مدار العبودية على قاعدتين، هما أصلها: حب كامل، وذل تام. ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين وهما: مشاهدة المنة، التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل، التي تورث الذل التام.
وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين: لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته.
وإنما يستقيم للعبد سلوكه هذا: باستقامة قلبه وجوارحه، واستقامة القلب بأمرين:
الأمر الأول: أن تكون محبة الله تعالى في القلب على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره: سبق حب الله تعالى حب ما سواه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه، ولا ينال شيئا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاء له على إيثار هواه وما يحبه على محبة الله تعالى، وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع، أن من أحب شيئا سواه عذب به ولابد، وأن من خاف غيره سلطه عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤما عليه، ومن آثر غيره عليه: لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه: أسخطه عليه ولابد.
الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي في القلب، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظم أمره ونهيه، فقال سبحانه وتعالى: (ما لكم لا ترجون لله وقارا﴾. أي ما لكم لا تخافون الله تعالى وتعظمونه حق عظمته.
وأول مراتب تعظيم الحق عز وجل: تعظيم أمره ونهيه، وتعظيم الأمر والنهي: هو ألا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد.
فتعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه: دال على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار، المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبت على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا تعظيم الآمر والناهي.
فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها.
فمن تعظيم أمر الله تعالى: الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحيي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدا ميتا أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره؟ فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك! ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في مسند أحمد عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها).
[email protected]