عندما هاجت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه كان أكبر تداع لها هو الصدام الفظيع الذي وقع بصفين سنة 37 هـ، ثم انفضت المعركة بلا منتصر، وكأني بالفريقين قد هزما، واتفقا على إرسال حكمين ليفصلا في القضية، وكتب بذلك كتابا قرأ على الناس كان بمثابة الشرارة التي أوقدت نار فرقة الخوارج، عندما خرج الأشعث بن قيس بالكتاب يقرأ على الناس حتى مر على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية فقال للأشعث: تحكمون في أمر الله الرجال لا حكم إلا لله، ثم شد بسيفه، فضرب بها عجز دابة الأشعث فغضب الناس لذلك، ولكن سادة بني تميم اعتذروا، وانتهت المشكلة، ولما قفل جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه راجعا إلى الكوفة في الطريق كانت قد تبلورت جماعة الخوارج وانضم إليهم من كان على رأسهم، وتضارب الناس في طريق العودة بالسياط والشتائم، فلما وصلوا إلى المدينة «الكوفة» انحاز الخوارج إلى قرية يقال لها «حروراء» قريبة من الكوفة، وكانوا اثني عشر ألفا، ونصبوا عليهم أميرا للقتال وآخر للصلاة، فأقبل عليهم علي وابن عباس وغيرهما ليقنعوهم بالعودة إلى الكوفة فأبوا في أول الأمر، ثم دخلوا جميعا إلى الكوفة.
خروج الخوارج من الكوفة مرة ثانية
لما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه إرسال أبي موسى حكما أتاه رجلان من الخوارج هما زرعة بن البرج وحرقوص بن زهير فقالا له: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: لا حكم إلا الله، وتناظر الرجلان من الخوارج مع علي، ثم خرجا من عنده يألبان الخوارج عليه، وخطب علي يوما بالمسجد فقام عدد من الخوارج يصيحون في جنباته: لا حكم إلا لله، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا وإنما فيكم أمر الله.
فعندها خرجت الخوارج من المسجد، واجتمعت بدار عبدالله بن وهب الراسبي، واتفقوا على الخروج من الكوفة إلى بلدة يجتمعون فيها لإنفاذ حكم الله بزعمهم، فأشار بعضهم بالمدائن، ولكن الباقي رفض لحصانتها وقوة حمايتها، وأخيرا اتفقوا على جسر النهروان قريبا من الكوفة، وتكالب خوارج الكوفة مع خوارج البصرة على الخروج في وقت واحد إلى النهروان.
بعد انقضاء قضية الحكمين بلا نتيجة عزم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على حرب معاوية وأهل الشام مرة أخرى، واجتمع عنده خمس وستون ألفا من أهل العراق، ثم كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج بالنهروان يدعوهم للقتال، فرفضوا دعوته وقالوا له: إنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نبذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين، فأراد ابن عباس أن يخرج لمعسكر الخوارج ليدعوهم للحق والعودة إلى الصواب، فخاف عليه علي بن أبي طالب، ولكنه طمأنه، ثم دخل ابن عباس معسكرهم ودار بينهم حوار طويل ظهرت فيه مقدرة ابن عباس الاقناعية وفقهه وعلمه الجم، حتى استطاع أن يرجع للكوفة ومعه قرابة الستة آلاف من الخوارج التائبين، فسر بهم علي بن أبي طالب، ودعا لابن عباس.
اعتداء الخوارج على المسلمين
ظل الأمر هكذا، الخوارج ساكنون لا يظهرون قتالا ولا عداوة حتى تتأتى لأسماعهم خروج علي بأهل العراق لقتال أهل الشام، فبدا لهم أن يدخلوا الكوفة، فتحركوا من البصرة على طريق النهروان، وفي الطريق حدثت حادثة كانت السبب في قتالهم بعد ذلك، حيث رأى الخوارج رجلا يسوق بامرأة على حمار، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبدالله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم، قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعنا به، فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيه بدنه، يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها وفي آخرها، فقالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا له: لنقتلك قتلة ما قتلناها أحدا، فأضجعوه ثم ذبحوه من قفاه، وأخذوا امرأته، وكانت حاملا متما فبقروا بطنها، وقتلوا وليدها، ثم قتلوا ثلاث نسوة من طئ.
والعجيب أنه بعد فعلتهم الشنعاء هذه مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه بعضهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، وأخذ أحدهم رطبة من تحت نخلة فوضعها في فيه، فقالوا له: بغير حلها وبغير ثمن؟ فألقاها من فيه فلما بلغ عليا قتلهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس بعث إليهم برسول من عنده فقتلوه، وقال الناس لأمير المؤمنين: علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفونا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى أهل الشام، فوافقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ذلك، وقرروا قمع شر هؤلاء الخارجين.
معركة النهروان
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأهل العراق لقتال الخوارج فوصل إلى النهروان، وقبل أن يندلع القتال طلب منهم علي رضي الله عنه تسليم قتلة عبدالله بن خباب، فقالوا له: كلنا قتله، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم، وحاول قيس بن سعد وغيره وعظهم وإعادتهم للصواب، ولما أيس علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عودتهم للحق والصواب دعا الله عز وجل قائلا: والله لا يقتل منا عشرة، ولا يسلم منهم عشرة. وكان علي رضي الله عنه حريصا على عدم سفك الدماء، فأعطى أبا أيوب الأنصاري راية، ونادى في الخوارج: أنه من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف من القتال ودخل الكوفة فهو آمن، فانصرفت مجموعة من الخوارج، وبقي قائدهم عبدالله بن وهب الراسبي مع ألف وثمانمائة من الخوارج، وهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين، وتنادى الخوارج فيما بينهم: الرواح إلى الجنة، ثم هجموا على جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان علي قد قال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم بالقتال.
حملت الخوارج على جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولم يكن معظمهم من أهل الخبرة في القتال، فاستطاع جيش علي أن يقضوا على حملتهم تلك، ووضعوهم بين فكي كماشة أتت على الخوارج جميعا كأنما كما قيل لهم موتوا فماتوا، ولم يقتل من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه سوى سبعة نفر، ولم يسلم من الخوارج سوى تسعة نفر، كما دعا علي ربه جل وعلا، وكان ضمن القتلى ذو الثدية، وهو رجل أسود مخدج اليد، وهو علامة الخوارج كما ذكر في الحديث الصحيح، فالتمسوه في القتلى مرارا فلم يجدوه، وعلي يكرر عليهم الطلب في البحث عنه حتى عثروا على جثته في حفرة مع خمسين قتيلا، وكانت له رائحة كريهة، فلما رآه علي خر ساجدا لله عز وجل طويلا لأن قتل هذا الرجل دليل على صدق وأحقية علي بالأمر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه الفرقة الباغية التي تقاتلها أولى الطائفتين بالحق، فكان علي أولى بالأمر من معاوية.