نعم الإسكان أولوية وقضية اجتماعية معقدة، قضية تهم شريحة مهمة من شرائح المجتمع، ولكن ستتوالى أجيال وأجيال ولن ترى تلك الأجيال حلا لها، ولن تفلح جهود ولا خطط الحكومة، ولا تحمس المجلس وضغطه لحلها، والمجلس والحكومة يدركان ذلك، ولعل هناك أولويات وطنية واستراتيجية تفوق في أهميتها القضية الإسكانية التي اعتبرها مجلس الأمة أولوية قصوى بالنسبة له، وحل تلك الأولويات أسهل بكثير من القضية الإسكانية، وهي على سبيل المثال لا الحصر، فالتصدي لمشكلة البطالة التي تؤرق الشباب أولوية، ومكافحة الفساد وتوابعه من انتشار الرشوة وسيطرة الواسطة أولوية، ومعاناة المواطنين من تدني الخدمات الصحية أولوية، والهدر في المال العام فيما لا يعود بالنفع على المواطنين أولوية، والخلل في ميزان العدالة الاجتماعية أولوية، ومواجهة الخلل في التركيبة السكانية الخطيرة أولوية، وعدم احترام القانون لدى العديد من المواطنين أولوية.
ولكن أين كل ذلك من أولوية الأولويات وأعني هنا أولوية إصلاح التعليم وتطويره، حيث ان من بدهيات الفكر الاستراتيجي وأهدافه لأي مخطط في أي دولة تريد حلولا وعلاجات لمشاكل وقضايا مماثلة لما تعاني منه الكويت لابد ان يضع أولوية ذات أبعاد وأهداف استراتيجية بعيدة المدى عميقة الأثر كأولوية إصلاح التعليم وتطويره، إذ ان التعليم وتطويره يعد أولى أولويات الأمم المتطلعة للتطور ومجاراة العصر.
إذ لم تنهض أمة في قديم الزمان أو حديثه، إلا وكان التعليم سبيلها إلى ذلك، وما من أمة لم تضع التعليم وتطويره في حسبانها إلا وأصيبت بالتبلد العقلي والتخلف الاجتماعي، وعادة ما تنتج عن ذلك آفات اجتماعيه تعيق اي مجتمع عن التطور ومجاراة العصر ومتطلباته، أقلها انتشار الفساد، والتفسخ الأخلاقي، والاستهانة بالقانون، والحط من قيمة الوقت والعمل الجاد المنتج، وإعلاء قيمة التفاخر بالألقاب، والالتجاء الى الفرز الاجتماعي الفئوي والاستقواء به، ناهيك عن التخلف الثقافي وانتشار الأفكار المستوردة، المقلدة تقليدا أعمى والتي تجعل المجتمع غريبا عن واقعه، بعيدا كل البعد عن عاداته وتقاليده.
إن مجتمع لا يعلي شأن التعليم وجعله أولوية الأولويات مجتمع بلا هدف وبلا رؤية مستقبلية.
ولننظر إلى أمم معاصرة اتخذت التعليم سبيلا لتطورها، سنراها في طليعة الأمم تقدما وعلما وإنتاجية، ولنأخذ اليابان الدولة التي بلا موارد نفطية مثالا لذلك.. فلقد حدثني صديق كان في زيارة الى نجازاكي، تلك المدينة التي دمرتها القنبلة النووية الأميركية في الحرب العالمية الثانية عن بكرة أبيها، والتي لازال بعض من عاصر تلك الكارثة يعاني من تشوهات ومشاكل صحيه لا حصر لها، يقول الصديق زرنا متحفا في المدينة يحكي قصصا بالصور وبالمجسمات، قصصا مرعبة عما أصاب تلك المدينة، ووقفنا أمام صورة أشار إليها المرافق بفخر، وأخذتنا الدهشة من محتواها وما ترمز إليه، كانت الصورة لفصل دراسي أقيم في العراء وبين الحطام، الطلاب فيه جلوس وكلهم انتباه لشرح المدرس، وأشار المرافق الى ان هذا الفصل أقيم على عجل بعد الكارثة بشهر حرصا من المجتمع الياباني الذي أصيب في الأرواح والبنى التحتية ولكن ظلت عزيمته وإصراره أن ينهض من جديد وكان يدرك تماما انه لا سبيل لذلك إلا بالتعليم، لقد وضعوا نصب أعينهم ألا يتأخروا عن ركب الحضارة، وها هي اليابان اليوم تجني سياستها عندما وضعت التعليم أولى أولوياتها.
هكذا تفكر وتخطط الأمم التي تريد ان تبني الإنسان، تحدد أولوياتها لتعد الإنسان ليكون منتجا لا متكلا ومستهلكا إنسانا يبني موطنا لا مواطنا عالة على وطنه.
باختصار إذا ما أردنا للمجتمع الكويتي ان يكون مجتمعا منتجا يعلي قيمة الوقت والعمل، مجتمعا يحترم القانون والنظام، مجتمعا خاليا من الآفات والعادات السيئة والتي أصيب بها على مر الزمن والتي أصبحت تعيق تقدمه وتطوره، إذا ما أردنا تحقيق ذلك علينا ان نضع تطوير التعليم وتحديثه أولوية الأولويات لا تتقدم عليها أي أولوية أخرى، وإن لم نفعل سنجد مجتمعنا ليس متخلفا فقط وإنما سنجده يوما خارج المجتمعات المتمدنة.