ما النسيان؟ وما أهميته في وجودنا المادي والروحي والفكري؟ هل هو عدم وظل محض أم أنه وجود وأصل راسخ؟ متى يصبح هامشا ومتى يصبح أساسا؟
أسئلة جالت في عقول الفلاسفة والحكماء منذ أقدم الأزمنة، قد أجاب عنها البعض وعجز آخرون عن الوصول الى إجابات حاسمة بشأنها.
النسيان عدم عند البعض، لكنه وجود زئبقي عند آخرين لا تدركه الكلمات وتعجز عن وصفه النصوص والعبارات.
قد يصبح النسيان مركبا يسير بنا نحو صناعة الجديد المجهول، ولذلك يجب أن نتقن ممارسة النسيان ونضع له غاية وغرضا لنحقق التقدم في حياتنا الفردية والمجتمعية.
إننا نؤسس المسيرة الذاتية لنا بالاعتماد على الذاكرة لكن في الحقيقة فإن النسيان هو الذي يجعلنا نتحرر من سلطة المعرفة، فإن النسيان يدخلنا في المنسي وهذا المنسي هو فضاء التواصل الذي يبدأ من الأنا المنفردة إلى ما وراء ذلك.
إن النسيان وسيلة ناجحة للاستمرار في الحياة وهو مشعل التحرر من أي حضور سلبي قد يجعل وجودنا منغلقا على ذاتنا، ولا ريب أن النسيان دليل على نسبية أفكارنا وضرورة تغييرها في أدوار حياتنا.
إن الذاكرة ما هي إلا كالغرفة السوداء لآلة التصوير فهي تلتقط الصور ثم تحتفظ بها مرتبة حسب تاريخ التقاطها، أما النسيان فإنه كلما تقادم فانه يضاعف من عدد النسخ السلبية (النيجاتيف) للصور لتختلط بين بعضها بعضا.
أيها الإنسان إذا أردت حسن الاستفادة من النسيان فأنت سوف تحتاج إلى القراءة، أما الكتابة فإنها تخضع للذاكرة لأنها تعيد الإنتاج، لأنك عندما تتوجه نحو النسيان فأنت تبدع، فالمنسي هو ما لا يرى مما يجب أن تتحدث عنه، أما الكتابة فهي رؤية ما يرى وحسب.
إن النسيان لا يدمر الذاكرة بل يجعلها خارج عالم المعرفة لينتظم الفضاء الفكري ويترتب باختيار العناصر، وهذا درس حقيقي في الحياة، فإن النظم الاستبدادية تقوم بالتدخل في ذاكرة الفرد والمجتمع وتحتل الواقع الذي نعيشه لتجريده من كل مضمون يهدد وجودها وهذا يغرق الذاكرة بسيل من المشاعر والأفكار السلبية، ولكن آن الأوان لنسأل أنفسنا عن قدرتنا على مجابهة هذا، وهل من الممكن أن يصبح النسيان نفسه وسيلة لإخراج حياتنا من المعنى أم أن النسيان سيكون قيامة لنا من العدم إلى قوة الارتكاز والموقف وحكمة الفعل؟ إنه اختيارك أنت لا غيرك.