لو كانت لدينا مراكز بحثية مستقلة تختص بالدراسات المستقبلية وتتولى التخطيط الاستراتيجي اعتمادا على الرصد الاستراتيجي لأخبرتنا بحقائق كثيرة تستدعي الاهتمام، وعدم وجودها لدينا هو أحد أسباب ما نواجهه من تخلف على كل الأصعدة، فلقد أصبحنا كالمريض الذي تعددت علله ولا يدري كيف يعالج نفسه.
لو كانت مراكز الاستشراف متوافرة لكان من أولوياتها بحث مستقبل لغتنا العربية التي باتت مهددة بالانحسار والاندحار إنسانيا وثقافيا على المستوى العالمي.
إن نظرة واضحة لما تكشفه نتائج التعليم في عالمنا العربي والإسلامي تؤكد لك أن اللغة العربية باتت في غياهب «خبر كان».
أما غياب الوعي بالمشكلة اللغوية لدى أصحاب القرار في وطننا العربي إذا ما استمر على ما هو عليه فإنه سيؤدي إلى موت اللغة العربية وعندئذ تموت الأمة.
لقد أعطانا التاريخ نماذج تؤكد أهمية اللغة في كل مجالات الحياة ودورها في بناء القدرة والقوة والشخصية الريادية القيادية، فلقد ذكر لنا التاريخ صفحات مشرفة عن «أثينا» وحكم الشعب نفسه بنفسه والذي اسماه اليونانيون «ديموس كراتوس» فإن قوة هذه العبارة انتجت خلودا للاسم والمعنى في آن واحد، ولم تستطع أية ثقافة جاءت بعدها رغم تعدد اللغات أن تبتكر لفظا آخر يقوم مقامها، بل لقد ازداد وهج هذه الكلمة وأصبحت «الديموقراطية» هي الكلمة السحرية لضمان النزاهة السياسية وصون المجتمعات من شبح الاستبداد والتسلط ولذا استمرت الديموقراطية لفظا ومعنى إلى يومنا هذا لتعيد تشكيل العالم بشكل متجدد في جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
اللغة هي العمود الفقري لحياتنا الاجتماعية وأنظمتنا السياسية وما يفعله أكثرنا اليوم ما هو إلا انتحار، والانتحار اللغوي عندما يكون جماعيا وعن تعمد متكرر فهو يؤدي إلى الفناء والاختفاء الحضاري.
إن الاعتزاز بالهوية مظهر من مظاهر الوعي بأهمية اللغة في الحياة، ولقد علمنا التاريخ أن الدول التي ناضلت طويلا كي تحمي وحدتها وكيانها كانت ترتكز على احترام لغتها وصون وحدتها اللغوية لتحقيق تماسك كيانها الداخلي، فلقد شهد العالم المعاصر في 14 أغسطس 1945مفاوضات بين الحلفاء واليابان وقبلت اليابان كل الشروط ماعدا شرطا واحدا رفضته بشدة وحزم وهو أن تتخلى عن اللغة اليابانية.
إن اللغة المحترمة الإيجابية هي مفتاح المستقبل الواعد بالحريات والديموقراطية الواقعية.. فأين موقعنا من كل ذلك؟