عندما يغادر الإنسان موطنه يحتويه الألم ويعيش الانهمام بمتطلبات العيش الكريم والذي عادة ما يسبب للإنسان تعبا شديدا إلى أن يستقر، فلا يتصور أن يهتم الإنسان في هذه المرحلة من حياته بأي شأن ثقافي أو علمي.
من هنا كانت المفارقة مع رحلة العلامة الكبير الشيخ د.محمد صادق الكرباسي، فإنه عندما هاجر إلى بريطانيا لم يسمح لنفسه أن يكون ذاك المهاجر الذي يستوطن بلاد الغربة وحسب، بل بدأ مشروعا علميا رائدا حاز إعجاب البريطانيين قبل غيرهم، فكانت دائرة المعارف الحسينية وهي موسوعة عالمية تعرض قراءة معرفية لشخصية إنسانية متميزة ألا وهي شخصية الإمام الحسين عليه السلام، ولكن في لندن عاصمة بريطانيا نتساءل: ما الذي يقدمه مثل هذا العمل في بلد مسيحي من الطراز الأول؟
أولا: لابد أن نؤكد أن بريطانيا من أعظم الدول في العالم التي تقدم نموذجا متطورا لاحترام التعددية واحتواء الثقافات العالمية كافة رغم اختلافاتها الكبيرة، ولعل من أسرار هذا الاحتواء هو عدم تحول التنوع العقدي إلى كراهية، بل إن المجتمع البريطاني يعتبر كل اختلاف مظهرا دالا على الصحة النفسية للفرد وللمجتمع على حد سواء، وإن كل من يعيش على هذه الأرض يجب عليه أن يحترم إيمان وعقيدة الآخر ولا يسيء لمن يختلف معه، ولا يتعدى على غيره بالقول أو بالفعل، وتحمي الدولة هذا الجو المتسامح وتكرسه بين المواطنين عبر احترام الهويات الخاصة واحترام مواطنتهم ومساهماتهم في المجتمع البريطاني.
ثانيا: لقد أدرك العلامة الكرباسي احترام المجتمع البريطاني للعمل البحثي/ العلمي/ المعرفي، فأنشأ المركز الحسيني للدراسات في عام 1987 ليقدم للمجتمع العلمي والديني في بريطانيا أكبر موسوعة معرفية سواء في التاريخ أو الأدب أو الشعر أو غيرها من شتى المعارف، وتتميز هذه الموسوعة بسعة الأفق البحث/ المنهجي والتحقيق والتحليل والموضوعية، وعدم التحيز لمذهبية أو فئوية ما وقد بلغت أقسامها تسعمائة مجلد.
كما أنها امتازت بشموليتها، فهي لم تقتصر على الفكر والتاريخ الإسلامي فقط، بل تعدته إلى تراث المستشرقين وهي تصدر بأكثر من لغة، ولقد نجح هذا الرجل المتألق من خلال المركز في أن يخلق جيلا متميزا من الأكاديميين المحققين والمترجمين للوصول إلى الهدف الحقيقي المنشود، وهو تقديم الصورة المعرفية المتكاملة لبناء الإنسان والخروج من حيرة هذا العصر لتأسيس الواقع المتألق من جديد.