لقد شكلت أعمال الفيلسوف ميشيل فوكو تراثا ملهما وأساسيا، وهي تشكل نقطة ارتكاز محورية تم توظيفها عمليا في عدة مجالات؛ باعتباره فيلسوفا ومؤرخا مجددا، ولقد كان هذا الفيلسوف المثير للجدل مصدرا لإلهام المثقفين، إذ إن نشاطه الثقافي الحر قد أعاد تشكيل مسار المثقف الفرنسي؛ ليجعله إحدى دعامات الحرية في المجتمع.
لقد ميز فوكو بين المثقف الخصوصي والمثقف العمومي، وهو يرى أن المثقف العمومي يمثل وعي المجتمع ككل ويجب أن يكون مدافعا وحاملا للحقيقة والعدالة؛ ذلك لأنه يمتلك نظرة شاملة للمجتمع تسمح له بالتمييز بين الصحيح والخطأ، وتعد وظيفته الأساسية هي الدفاع عن الطبقات الضعيفة، وتأسيس مجتمع عادل ومتساو بالنسبة للجميع، ولذلك فإنه نظر بحذر إلى المثقف الخصوصي، وهو ذاك الذي يتصرف بحسب علاقة أخرى، ويوظف عددا معينا من الأفكار المعرفية التي يملكها بطريقة سريعة ومستعجلة يجري من خلالها نقدا محددا لنقطة خاصة.
هذا، بينما المثقف العمومي لا يؤطر نفسه ولا يطبق معارفه ضمن انتقادات محلية وخاصة، ولكنه يؤسس خطابا عاما حول المجتمع يستهدف من خلاله معالجة مشاكل اللاعدالة السائدة فيها.
ومن هنا اختل ميزان مهمة المثقف في المجتمع، ولم تعد السمة الروحية المشتركة ولا البلاغة المستفزة المدعومتين بقناعة أخلاقية وسياسية هما ما يحدد دور المثقفين، وإنما مهارتهم في الاستعمال النقدي لقدراتهم بخصوص القضايا الخاصة فقط.
إن الوظيفة السياسية للمثقف كما يراها فوكو مرتبطة بدقة بمشكلة إنتاج الحقيقة، إذ يقول إنه ليست المشكلة السياسية الأساسية بالنسبة للمثقف هي نقد المضامين الأيديولوجية التي ستكون مرتبطة بالعالم أو أن يقيم بشكل ما ترابطا بين ممارسته العلمية وإيديولوجية صحيحة، وإنما معرفة ما إذا كان من الممكن بناء سياسة جديدة للحقيقة، ليست المشكلة هي تغيير وعي الناس أو ما يدور في أذهانهم، وإنما العمل على تغيير نظام الحقيقة السياسي والاقتصادي والمؤسساتي لإنتاج الحقيقة، يجب ان نحذر من ذاك المثقف الخصوصي الذي سيكون دوره هو البرهنة على أحداث الحاضر والعمل على بنائها كنتاج لسيرورة تاريخية، وعندئذ سيقصي كليا أي رؤية استشرافية لنا عن المستقبل.
إننا بحاجة إلى مثقف يشتغل على تحقيق المعرفة، فلا يصح له أن يسمح للعمل السياسي ان يقصيه عن دوره المعرفي، ولا يصح أن يمنعه تحليل القضايا المحلية والخاصة من أن يقوم بتحليل شامل لتفسير الواقع وتأسيس رؤية شاملة للمجتمع.