الوطن فكرة غامضة وغير محددة وتحتاج شيئا من التأسيس المعرفي لفهم نظامها، وأتساءل ما إذا كانت فكرة الوطن ليست في النهاية إلا اعتبارا عاطفيا أم حقيقة واقعية؟ وبالتالي أتساءل ما إذا كنا ضحايا لتلك الفكرة؟ وما إذا كانت أفكارنا المتمثلة في أن لنا جذورا جغرافية هي مجرد خيال نتشبث به أم لا؟
هكذا يرى (كونديرا) صاحب المزحة والكائن الذي لا تحتمل خفته والذي يسعى إلى الخلود والحياة في مكان آخر وإن كان قد مارس غراميات مرحة في حياة صاخبة برقصة الوداع، وداع من ملئ بالضحك والنسيان في حفلة تفاهة تمكن من خلالها من تشريح البطء والجهل والانهمام بالهوية قبل أن يرفع الستارة وهو فيلسوف الرواية.
لقد عانى كونديرا من البعد عن الوطن قسرا وجهرا ومن آلام وخيبة آمال وأحزان، فإنه عندما يهرب الإنسان من وطنه فإنه يكون قد وصل إلى مرحلة من التعاسة وإن كان له في منفاه من يعتني به، فهذا شعور مفهوم، أما أن يحول الإنسان شعوره بالعدم إلى تجدد وتألق في امتطاء صهوة جواد الحياة من جديد فإن ذلك أمر استثنائي يدل على همة عالية وروح عاتية. يقول كونديرا: «هل أعتبر حياتي في فرنسا حياة بديلة وليست حياة حقيقية، هل أقول لنفسي حياتك الحقيقية في تشيكوسلوفاكيا بين أبناء بلدك القدامى أم أقبل حياتي في فرنسا هنا، حيث أنا حقا كحياة حقيقية وأحاول أن أعيشها بالكامل؟».
ولقد حسم هذا الجدل إذ قال «لقد اخترت فرنسا»، وهذا شاهد واضح على أن الإنسان يختار (الكرامة) و(الراحة والحياة الواعدة) أينما كانت ولقد ذكرني ذلك بقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»، إننا نحتاج أن نفكك بين ما هو اعتباري وما هو حقيقي في حياتنا، فإننا نحن من يصطنع هذه الحدود.
وأخيرا فإن البيئة الاجتماعية صناعة إنسانية وحسب، لذلك لا يصح منا أن نتآكل داخلها بل يجب أن نصنعها ونحسن إدارتها وأن نوجه إرادتنا التي تتطلع إلى المستقبل المتألق المشرق ولكن تظل العلاقة بين الوطن والإنسان علاقة جدلية إلا انه عندما يصل الإنسان إلى معضلة الاختيار بينه وبين الوطن فإن الإنسان يكون هو الأولى وفوق كل شيء وكل اعتبار (ولقد كرمنا بني آدم).