إن من أعظم أهداف الرسالة المحمدية بناء الفرد الصالح والمجتمع الفاضل وفق المنهج الرباني بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل لإيجاد الإنسان الخليفة والأمة الربانية المتآلفة المتآخية المتوادة التي يعمل فيها الفرد لمصلحة الجماعة، والجماعة لمصلحة الفرد، في توازن وتناسق وتكامل يؤدي الى إيجاد المجتمع الفاضل والأمة الفاضلة والإنسانية السعيدة التي لطالما راودت احلام الفلاسفة والمصلحين والمفكرين عبر السنين، وظلت في عالم الخيال، ولم تتحقق في عالم الواقع إلا في ظل التربية القرآنية والقيادة النبوية.
فالأمة المسلمة ليست تكتلا او حشدا او كيانا عدائيا، تقيم علاقاتها بالآخرين على أساس الهيمنة والقهر العقائدي، بل هي في المفهوم الإسلامي مشروع راق للحضارة الإنسانية التي تجسد معنى الاستخلاف في الأرض، وهذا هو معنى «الخيرية»، التي هي مضمون حضاري يحقق، وليست لقبا يعطى أو صفة تضفى.
في هذا السياق، تناولت د. فاطمة عمر نصيف في كتابها "الأخلاق في الميزان" مفاهيم تتعلق بموضوع الأخلاق من زوايا عدة ستنشرها "الأنباء" تباعا في حلقات.
يتميز المجتمع الاسلامي بسيادة شعور المحبة والاخاء فيه، ذلك أن رابطة الاخوة في الله تقوم على عقيدة إيمانية راسخة، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات: 10.
فالاخوة في الله من أوثق روابط النفوس وأمتن عرى القلوب وأسمى صلات العقول والأرواح، لأن الاخوة الإيمانية جزء لا يتجزأ من العقيدة التي تربط بين قلوب معتنقيها بأواصر لا تنفصم، ولأن رابطة العقيدة لا تعدلها أي رابطة أخرى من نسب أو جنس أو لون أو لغة أو جوار أو مصالح مشتركة، فهذه كلها تظل رابطة سطحية لا تكاد تجمع حتى تفرق إذا اختلفت الأهواء وتضاربت المصالح، ولذا فقد تخطى الإسلام كل تلك الروابط، وجعل الاعتصام بالله والاخوة في العقيدة الرباط القوي الذي لا ينفصم.
قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا) آل عمران: 103.
صيانة روح الأخوة
فيحرص الاسلام على صيانة روح الاخوة الإيمانية، والتوجيهات النبوية تزكيها وتنميها، فتجعل من مستلزمات الإيمان أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال: لجاره ما يحب لنفسه».
وقد صور هذا المعنى وهذه المرتبة من الاخوة محمد قطب بقوله: «يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع في الأمن والسلامة أن يتآخيا أن يسيرا معا وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب، ولكن انظر اليهما وقد ضاق الطريق فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر فمن أقدم، أقدم نفسي أم أخي وأتبعه؟ ثم انظر الى الطريق قد ضاق أكثر فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر إنها فرصة واحدة إما لي وإما لأخي فمن أقدم؟ أقول: هذه فرصتي وليبحث هو لنفسه عن فرصة؟ أم أقول لأخي: خذ هذه الفرصة أنت، وأنا أبحث لنفسي هذا هو المحك، ان الاخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئا ولا تتعارض مع رغائب النفس، بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحقيقها، أما في الشدة أو في الطمع فهنا تختبر الاخوة الاختبار الحق الذي يتميز فيه الايثار والحب للآخرين، من الأثرة وحب الذات التي قد تخفى على صاحبها نفسه في السلام والأمن، فيظن نفسه أخا محققا لكل مستلزمات الاخوة».
لقد تحولت هذه المعاني الى حقائق ذهنية استوعبها الذهن والقلب، فصدر عنه سلوك عملي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بلغوا هذه الدرجة من المحبة الاخوية، وهي درجة الايثار فامتدحهم الله تعالى بقوله: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر: 9.
الحب في الله
وكلما ارتقي المسلم في درجة محبته لإخوانه، ارتفعت درجته عند ربه ونال محبته ورضاه، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم «رجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه».
وكذلك الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي».
لقد رفع الإسلام مقام المتحابين في الله وأعلى منزلتهم حتى جعلهم في منزلة يغبطهم عليها الأنبياء والصديقون والشهداء قال صلى الله عليه وسلم: «إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الشهداء والنبيون يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ومجلسهم منه، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله صفهم لنا وحلهم لنا قال: قوم من أقناء الناس من نزاع القبائل تصادقوا في الله وتحابوا فيه، يضع الله عز وجل لهم يوم القيامة منابر من نور يخاف الناس ولا يخافون هم أولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، أختار منها هذا الحديث الذي يوضح قيمة هذا الحب الأخوي في الله.
الحديث الذي رواه مسلم: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحبه في الله عز وجل؟ فقال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه».
الإخاء وقوة المجتمع
بهذه المحبة التي غرست في القلوب فتصافت العقول، فتلاقت، كان المجتمع القوي النقي التقي المتماسك الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
ولهذا كله لم يرد في الكتاب والسنة عن الحث على شيء مثل ما ورد في المحبة والتآخي في الله إدراكا منه صلى الله عليه وسلم بأنها أساس الخير وجماع الفضائل حتى انه يجعلها شرطا في الإيمان فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم».
فالمجتمع الإسلامي الذي أسس على المحبة والاخوة في الله مجتمع سعيد قوي غني لأن المحبة هي أنجع وسيلة إلى تهذيب الأخلاق وتكميل النفوس، وهي سر الله المخزون الذي تشفى به الادواء، والترياق الذي تذهب به سموم الأمراض الاجتماعية، وهي أنجع وسيلة لاقتلاع شجرة الشر من النفوس، وإبادة أنواع الفتن من العالم، وإذا تأكدت بين قوم أحلتهم محل الصفاء وسارت بهم أسرع ما تكون في طريق الارتقاء.
التكافل الاجتماعي
فالإسلام شديد الحرص على أن يحفظ للمجتمع وحدته وتماسكه وقوته وترابطه ومودته، فيعيش الناس فيه اخوة متحابين متعاونين تلفهم الرحمة وتربطهم المودة فجاءت الأحاديث النبوية التي تقرر مبدأ التضامن والتكافل الاجتماعي بين المؤمنين بما يضمن سلامة هذه الأخوة ودوامها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتدل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة».
فالحديث يقرر أصلا من أصول المجتمع الفاضل، ومبدأ من مبادئ الإصلاح الإنساني العام، ويحث على صور متعددة من صور التراحم والتعاون، فإصلاح ذات البين وتقديم يد المساعدة للآخرين والتخفيف عنهم بالكلمة الطيبة والقول الجميل والفعل البسيط، كلها أمور يظهر أثرها في توثيق عرى الاخوة وتقوية روابط المجتمع، مما رواه البراء رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس.
ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والديباج والقسي والإستبرق.
إفشاء السلام وصلة الارحام
كما وردت توجيهات نبوية عالية لتحفظ على المجتمع وحدته وعلى الأخوة رباطها لتسلم الصدور وتصفو النفوس، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»، وقوله: «من سره أن يبسط له رزقه وينسأ في أثره فليصل رحمه». هذه بعض الواجبات الاجتماعية البسيطة لكن تأثيرها كبير وقوي في توثيق عرى المحبة، وتوكيد روابط المجتمع، أما صلة الأرحام فقد وردت فيها توجيهات قرآنية كثيرة تؤكد على أهمية هذا الواجب وتحض عليه لأن للأهل حقين حق الاخوة وحق القرابة، وتتوعد كل من يقطع رحمه. قال تعالى: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) الرعد: 25. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم».
كما قال صلى الله عليه وسلم مؤكدا على الاخوة ومبينا بعض حقوقها: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره». فمناصرة المسلم واجبة على المؤمن وأن يأخذ بيده إذا رآه في ضيق وشدة، ثم نبه إلى عدم احتقاره بقوله: «ولا يحقره» وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه». وكأن الذي تسول له نفسه بالاستعلاء على أخيه المسلم واحتقاره قد خرج من كل خير وانغمس في كل شر ورذيلة، وباء بغضب الله بل ان الرسول الكريم أعطى للمسلم حرمته فلا يجوز لأحد الاعتداء عليه بأي نوع من الاعتداءات فقال: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».