التأرجح الفكري والمجتمعي من الظواهر المرضية الحديثة التي أصابت العمود الفقري للمجتمع، ففقد الفكر اتزانه وعمقه، واضمحل تقدير المواقف واتخاذ القرارات، حتى العاطفة أصبحت غير متزنة ومتقلبة!
وتأرجحت الأحزاب والأفراد واهتزت القناعات وانحرفت الاتجاهات الفكرية والسياسية والدينية، فبين الفينة والأخرى يشجع الشخص او الجماعة حدثا أو قانونا أو شخصا أو سياسة ما ويوافق ويؤيد، ثم بعد وقت ليس بالكثير يتحول موقفه تماما إلى النقيض وكأن الذي كان يهتف ويؤيد بالأمس لم يكن هو..!
باتت العقول متأرجحة تائهة في التمييز بين الحق والباطل وبين نور الحقيقة والسراب بعدما قام جنود الباطل باحتجاز الحق في ثنايا الظلام ثم قاموا بعملية جراحية له دون إعطائه مخدرا يخفف آلامه، ونزعوا وجهه وألصقوه لوجه الباطل!
وبعد هذه العملية التضليلية التي تتكرر على مدار أعوام تعثر على الناس التمييز وأصبحوا يشاهدون ويسمعون ألسنة الحق تتفوه مفردات الباطل التي لم يعتادوا سماعها، فتاه الناس، والتبست عليهم الأمور وأصبحوا بين مؤيد ومعارض في كل الأمور والاتجاهات ولم نعد كعرب نتفق على شيء واحد في مجتمعنا.
لقد تفرقت الحقيقة الأصيلة الناصعة بين دروب الخلاف المقيت والتعصب المذموم وغدا كل اتجاه وفكر قائما بنفسه لا يهمه إن استقام أو ضل.
ومما يزيد الصورة قتامة والمنظر بشاعة هو أن كل فريق بما لديهم فرحون، وما سبقتنا الأمم الأخرى وتقدمت إلا بتوحد كلمتها وأهدافها حتى وصلت إلى غايتها، بقوة مشاريعها القومية وتشاركها في صياغة استراتيجيات التقدم والتنمية وغيرها من مقومات النهوض الفكري والحضاري والاقتصادي.
ولن يفلح دعاة التخوين والتشويه والتفرقة في تضليلهم حتى وإن جمعوا الناس ووضعوهم في (الأرجوحة)، فتأخذهم تارة للأعلى وتارة للأسفل تدور بهم حيث دارت المصلحة وتستقر بهم حيث استقر النفاق الاجتماعي، بل وأصبحت تتأرجح بهم وتدور حتى تنمحي من ذاكرتهم نقطة البداية ويتيهون عن الطريق الذي اختاروه سلفا، فيجدون أنفسهم في (متاهة) الحياة والتي حجبتهم عن أصولهم بوسائل عديدة كانت كافية لأن يتخلوا عن مبادئهم الأصيلة التي تؤطر مبتدأ تقدمهم ومنتهاه.
أيضا قد صوبوا سهام الشبكة العنكبوتية التي نسجت من شبهات الدين حبالا يتمسك بها الباطل على ألسنة شيوخ الزينة والإشهار، ومروجي دين وفكر الانقياد لنحلة الغالبين، ونشر ملوثات السياسة التي تفقد الناس ولاءهم للوطن والحق ويتيهون وراء الوعود الخادعة التي لا تخدم سوى أهداف مروجيها.
ولا مانع عندهم من إضافة بعض منكهات التأرجح المسكرة مثل الحاجة والفاقة والغلاء والإرهاب وهوس الرياضة وأخبار الفضائح حتى تظل العقول في انشغالها وتأرجحها في كل الاتجاهات والمجالات الحياتية.
ولا يخفى على القارئ اللبيب الهدف من وراء ذلك طبعا..!
لكن من المؤكد أن من تعلم كيف يفرق بين الحق والباطل وامتلك ملكة التمحيص وناصية الحق البلجاء، سيعرف هذا بمنتهى اليسر.
فمهما تفنن أدعياء الحق ودعاة الحقيقة الزائفة في محاولات تفرقة المجتمع ووأد الحق وإخفاء معالمه فلن يتمكنوا من تضليل العقول المستنيرة بالعلم والمعرفة، والقلوب النابضة بالحب والخير المستمد من ثوابت وقيم ديننا الحنيف، ومقومات الإنسانية.
وهؤلاء لن يسمحوا بأن يكونوا تابعين لمتبوع على غير الحق والصواب سواء كان قائدا أو عالما أو مثقفا أو صاحب فكر أو منهاج على تغيير ما بنفوسهم التواقة الطامحة لكل تغيير يكون محوره وهدفه الرقي بالإنسان وتحقيق الإنسانية في أبهى وأرقى صورها وتجلياتها..!
والسلاح الذي يعين عقولنا الواعية على اجتناب السقوط في هذه الفتن هو قلوبنا التي خلق الله تعالى فيها الطهارة والخير بالفطرة ثم دعمت بسماحة ديننا الحنيف، وحضارتنا وأصالتنا كعرب، لأن العربي فطن بطبعه حتى قبل تبليغ الرسالة ووصوله لمرحلة ارتقاء روحه الإنسانية بصفائها وتوحيدها من الإيمان إلى درجة الإحسان.
يقول صلى الله عليه وسلم: يا وابصة.. استفت قلبك، واستفت نفسك ثلاث مرات، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك. (حديث صحيح، رواه أحمد).
[email protected]