مما يثير البؤس والأسى والحسرة في زمننا هذا، هو أننا نعيش في مجتمع تتزاحم فيه النظريات التربوية ودروس التنمية البشرية الحديثة ونسينا في المقابل للأسف البديهيات الأساسية منها، والتي يجب ألا تغيب عنا وأن نضعها نصب أعيننا في شتى مجالات حياتنا.
هذا وما يجعلك ترى أن هناك الكثير مما يجعلون ميزان التفاضل في الإيمان بين الناس داخل كل المجتمعات البشرية يعتمد على السلوك العام للمجتمع بكثرة العلم والثقافة مجردا من أي عوامل أخرى، وهذا هو الأدهى والأمر! فعلى سبيل المثال يقول لك أحد معارفك أترى ذلك العالم أو المفكر أو الأديب أو الشيخ أو الداعي....إلخ، هو متبحر في العلم، ثاقب الذهن، واسع المعرفة، حسن المأخذ، عميق الفهم، غريز الفكر، موطأ الأكناف، نبيل المداخل، فقيه الاختلاف، قليل الجهل، تام الأصالة، كامل البينة، كنز من الثقافة والعلم والدين! ولكن جميع كل ما سبق ليس بمقياس للتفاضل في الإيمان بين الأشخاص، فلا تغتر بكل ذلك يا عزيزي، فلمقام واحد فقط مسيء للأدب كفيل بوقوع كل تلك الألقاب منهم، بخلاف أنها ستكون مقرونة أيضا بالعقوبة حتى وإن تأخرت عليهم! فانظر إلى إبليس كيف غره ما ظن أنه حصله من العلم والعبادة حتى ان الله رفعه في الملأ الأعلى وأصبح ذا مكانة عليا بين الملائكة، لكن! ذلك لم ينفعه بشيء عندما أساء الأدب مع رب الأرباب، فلم يضره قلة العلم وإنما ضره قلة الأدب والخلق (التعالي، الغرور، العنجهية، التكبر، الاستكبار)، فأصبح نموذجا واضحا ملعونا مطلقا في الدنيا والآخرة لكل من يسيء الأدب.
صدق أحد الشعراء حين قال: «لو كان في العلم دون التقى شرف، لكان أشرف خلق الله إبليس،
فلا تحسبن العلم ينفع وحده، أو الثقافة، أو الفهم، أو المنصب، أو الاسم، أو المكانة.... إلخ، ما لم يتوج ربه بخلاق الأخلاق والآداب، فهو المعيار الثابت الراسخ في التفاوت بين الناس كافة، كما الفرائض كلها تؤدى من قبل الكثير من المسلمين، ولكن كيف يتفاوتون فيما بينهم؟ أليس بحسن خلقهم؟! فالشرع قد اهتم بالأخلاق والآداب قبل طلب العلم، ألم يكن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية هو الخلق، فقالها صراحة واضحة مطلقة «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أليست مكارم الأخلاق تحتل أكبر مساحة من الدين، بل إن الدين كله خلق، فربنا سبحانه وتعالى يقول مخاطبا نبيه: (وإنك لعلى خلق عظيم) وفي موضع آخر موضحا باللين والاحتواء للصحابة في ظروف كانت لتزلزل وتفرق الجموع فيقول - جل جلاله - (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
فلم يكن الشرط دائما أنه ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فما لا يمكن تحقيقه بالقوة من الممكن تحقيقه بالأدب والثبات والأخلاق، ولا ريب في كل ذلك، فقد جاءت الأخبار كثيرا عن المتقدمين حيث كانوا ينتخبون لأبنائهم ممن يؤدبهم قبل أن يعلمهم فإذا أرسلوا أولادهم لأهل العلم ليأخذوا من علمهم، أمروهم قبل العلم أن يتأدبوا بأدبهم وهديهم.
أذكر أنني قرأت ذات يوم في سيرة الإمام المؤدب أبو زكريا الفراء صاحب كتاب المعاني تلميذ الإمام الكسائي في اللغة، في زمان الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، حيث أدهش المأمون بهذا الكتاب العظيم، الذي استهوله القراء والمفسرون، ونال ثناءهم وإعجابهم حتى قال قائلهم: «كتاب المعاني كتاب لا يمكن لأحد أن يزيد عليه!» فكانت الرغبة شديدة في نفس المأمون والظروف مواتية، بأن يدفع بكلا ولديه إلى الفراء ليغرس في نفسيهما الأدب وحسن السمت والخلق، فهو مطلب ديني ودنيوي قل في الناس الآن من يلتفت إليه، بل إن البلايا لم تتوال علينا إلا يوم هجر الناس الأدب والخلق الحسن، وأقبلوا على العلم، ولم يزينوه بحليته الواجبة.