وما الحياة الدنيا إلا مجرد مسرح كبير يصعب على الإنسان أن يدرك فيها حقيقة الآخرين من حوله وما تخفيه نفوسهم نحوه، وإن كانوا ممن يتعامل معهم بشكل يومي، لأنهم يرتدون أقنعة جميلة وجذابة هم أبعد ما يكونون عنها لكونها غير معبرة عن حقيقتهم، وكل إنسان منا يمتلك ظاهرا وباطنا، وليس من الضروري أن يتوافق الظاهر مع الباطن، كقناع المحبة على سبيل المثال، فلربما يحمله من له في قلبه الكره والحقد والخبث والحسد تجاهك دون أن تدري، لأنها من المشاعر المضمرة التي لا تظهر من دون مواجهة المواقف الحياتية التي لا تحتمل الزيف والخداع.
ولكن أحيانا كثيرة أيضا ما تكون البصيرة أو إحساس قلبك الداخلي «الوخزة» وما تشعر به، يمكنك من معرفة دواخل الآخرين أي بواطنهم، سواء من أول نظرة أو من أول حوار أو من أول تعامل أو حتى عن طريق التعارف السطحي، فكثيرا ما تجد نفسك تقول إنك لا ترتاح أبدا لهذا الشخص وأنت من الأساس لم تعرفه أو تكلمه أو تتعامل معه، ويصادف كثيرا أن يصدق شعورك وإحساس قلبك تجاهه، فيصبح شعورك حقيقة.
ودواخل الناس تحتاج لهذا، ولاسيما في زماننا الحاضر، حيث كثر فيه الكذب والنفاق والخبث والزيف والرياء، والإنسان كيفما كان معتقده فهو معرض لشتى أنواع الانكسارات والخذلان حتى من أقرب الأشخاص إليه، فلا يسلم الإنسان من حلول قوارع الزمن التي قد تعوزه الحيلة، لهذا قد يغلبنا أحيانا الإحساس بالانتكاس والإحباط، فتضعف إرادتنا التامة، ويذهب الفرح والسرور عنا.
ولولا تلك البصيرة أو إحساسنا الداخلي إضافة إلى بعض رياح الشدائد العاتية التي عادة ما تعري الإنسان وتظهره على حقيقته أمامنا، لظل المرائي الكذاب والخبيث في نظرنا صادقا، ولبقي المنافق الخداع والصريح النزيه سواء، وما كنا لندرك أن الناس معادن.
وهناك أشخاص، مع الأسف، لا يملكون تلك البصيرة اللازمة أو ذلك الإحساس الداخلي ليكونوا على دراية تامة بالسيئ من الجيد، وينطبق عليهم غالبا وصف «السذج»، وهم الذين لا يستخدمون إحساسهم أو بصيرتهم من الأساس، بل يعتقدون أن الجميع جيد، وهناك أنواع منهم تعتقد أن الجميع سيئ، ولكن يجب أن نعلم أن كلا منا لديه عيوب ومميزات تخصه وليس هناك إنسان كامل أو يستطيع أن يفعل الخير بشكل مطلق، ولكن من خلال بصيرتك أو إحساسك الداخلي بإمكانك تمييز السيئ لتتجنبه، وتأكد أن ذلك الإحساس ينبعث من أعماقك، وتيقن أنه بوصلتك الدقيقة التي لم تخيبك باتجاهاتها وتوجيهاتها، وكما قال تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى)، والله لا يخلق شيئا عبثا.
أخيرا.. البصيرة أو الإحساس الداخلي ليس سحرا أو معجزة، بل هو خبرة يكتسبها الشخص من المواقف والتجارب التي يتعايش معها، وأحيانا تكون فطرة وسرعة بديهة، ولذلك في كل الأحوال حاول استعمالها لأنها مفيدة جدا على المستوى الحياتي والاجتماعي، كما لا تتسرع أبدا في عمل العلاقات مع الآخرين، وكن صبورا جدا في انتقائك للأشخاص ولا تدلِ بأسرارك لأي من الناس، ولا تعمل الكثير من الصداقات حتى لا يختلط عليك الجيد بالسيئ، إلى أن تثق وتتأكد حق التأكيد.