اشتهرت أغنية لتمجيد «جمال عبدالناصر» آنذاك في مطلعها (يا جمال يا حبيب الملايين)، وكثيرون ممن كانوا يرددونها بالأمس يلعنونه اليوم، ولا عجب، فالآراء تتغير لأنها تفعل عندما تكتشف الحقائق أو تعايشها في حين كانت تطمسها أدوات الإعلام السياسي كل في زمنها وضمن إمكانيات ذلك الوقت.
لا أدري لم علقت بأذني منذ فترة «يا جمال يا حبيب الملايين» ولكنها أعطتني فكرة هذا المقال.
منذ الانفتاح المفاجئ والسريع للشعوب على بعضهم البعض وعلى أنظمة وأساليب الحكم في مختلف الدول، بسبب التطور التكنولوجي في وسائل انتقال المعلومات والاتصال، وهناك معركة تداول للمعلومات، وتتخللها نزاعات لفرض المفاهيم أو تصدير الأفكار والقناعات بين الشعوب وللأسف أغلبها سيئ.
إن تبادل الثقافات شيء جيد بل مطلب إنساني، لو كان ذلك التصدير للقيم الإيجابية ولبث السعادة والطمأنينة بين الناس ولغرس معاني الحرية وتبادل المعارف بكيفية التعامل بمسؤولية مع التعبير عن الرأي والانتقاد بمكانه ولذاته لا لشخصانية أو للنيل من فرد، ولكن للأسف الذي يحدث، أننا أخذنا من الانفتاح التكنولوجي أسوأ مخرجاته وحصدنا أقبح نتائجه، كعادتنا.
لقد باتت منصات التبادل المعلوماتي مرتعاً لنشر القلق والخوف والتشاؤم من المستقبل، ودعم الإشاعات التي تهدم متعة العيش عند الإنسان التي يشعرها لأنه يجهل الغيب، وتبغضه بالحياة عبر اطلاعه على شعوب تحترمها حكوماتها بينما هو محتقر، وفتاوى معلبة تحثه على الركون للظلم باسم «فضيلة الصبر» بهتاناً لمقاصده، وتمنعه من المطالبة بحقوقه.
وهي بذلك تمكن للظالمين وتمجدهم باعتبارهم أولي قوة وبأس وتخوف أهل الحق من بطشهم وطول أياديهم، وتضرب لهم الأمثال بمن نكل بهم من قبلهم، بل وتنشر زوراً أن العوام ضعاف عقول وأن الخواص هم المصطفون الأخيار وعلى الجميع الانحناء لهم شكراً وعرفانا وفرش رداء الطاعة تحت أقدامهم ضاربين المثل بطاعة الرعية لابن الخطاب، وشتان بين الطين الذي خاضت به قدماه وهو يدخل القدس ليتسلم مفاتيحها، وبين أقدام تلوثت مدبرة عن قضايا الأمة ووالت بغاضها.
مع الوقت يقتنع الناس أن الثقافة والمعلومات طاعون العصر ووسوسة الشيطان، بل وجن يسكن العقول ليدمرها، لأن هكذا تعود البعض على التفكير كما لقن، فلم يزدنا التواصل مع الثقافات إلا رعباً وقلقاً وجهلاً وعبودية.
لقد دخلت الكاميرات بين الوسادة والسرير، وبين المرء وقلبه وفضحت ما في السرائر، فهل ما زال الذين يصنفون أنفسهم «صفوة البشر» يرددون اسطوانة «الأغلبية التابعة» والأقلية الحاكمة؟!
هل ممكن أن تستمر عقلية تصفية المعلومات قبل وصولها ليد الناس بحفظ البلاد والعباد من الفتن؟!
لا، وإن أرادت أن تستمر لن تستطيع، فبالرغم من لمسنا لبعض مساوئ الانفتاح فالانغلاق مفسدته أكبر، وبالرغم من أن الخير ينتشر أبطأ بمراحل من الشر، وبالرغم من كل ما سطرته لكم أعلاه، انتهى عهد وصاية الإنسان على عقل إنسان.
أذكر عندما كنا في مقاعد الدراسة كان الأهل يحفزوننا بقول: «إذا كان زميلك يقدر فأنت تقدر أيضاً»، يشجعوننا على التفوق لأن المسألة فيه عند تساوي المحددات تعتمد على الانضباط والالتزام، فهما اللذان يحددان النتائج، وهما العاملان الفارقان في سلم الدرجات.
كذلك في التدفق المعلوماتي هناك محددات ثابتة فمثلاً من حق كل إنسان استخدام الوسائل المعلوماتية بل على الدولة أن توفرها له ومجاناً، لأن الدساتير تكفل التعلم وقبلها قرآننا أمرنا بـ «اقرأ»، بينما تعتمد النتائج الإيجابية والسلبية من استخدامها على درجات الانضباط والالتزام من الإنسان، الإنسان هو السر وليس الجهاز أو التكنولوجيا.
وعن تجربة وممارسة، فالإنسان الذي يسيء استعمال المعلومات عايَش الحرمان من الحصول عليها، والذي يقدر نعمة انسيابها وتوفرها هو الذي يجدها فوق رفوف المكتبات وبأسعار متاحة وفي جهازه النقال بلا مواقع محجوبة.
إن الرقابة على العقول واعتبارها متخلفة وللدولة أن تنشئ أجهزة تقوّم سلوك تفكير مواطنيها العقلي وتختار لهم ما يتعلمونه ومتى وكيف، مخالف لقاعدة «العقل مناط التكليف» الذي ميزنا الله به ولولاه لسقط العقاب والثواب والحساب.
لذلك فالحكومات تسير عقول الناس كيف تشاء، تدس معلومات مختارة منتقاة بدقة عبر مستشارين يحصلون على رواتب ضخمة من خزينة الدولة، وقد تكون تلك الدول تحصل ضرائب من المواطنين فيصبح المواطن مساهماً بتلك الرواتب لفريق تم تعيينه ليتحكم في عقولهم وليغلق عليهم أبواب المعرفة ويفتح هو ما يريد وبالقطارة، والسبب: الشعوب لا تعرف مصلحتها وفي ترك تدفق المعلومات للعامة من دون رقابة مفسدة كبرى، ولذلك يجب أن نشتري الكثير الكثير من الأخشاب ونصنع أكبر باب لسد الذرائع حتى تعيش البشرية بسعادة الجهل ونحن نفكر عن البشر، هكذا تسوس الأنظمة السلطوية والعسكرية البشر.
وما زلت أعجب: بأي عقل يكون جمال حبيباً لملايين إن لم تكن الملايين في غيبوبة ولديها «حصْر» في المعلومات؟!
@kholoudalkhames