جاءت معذبتي في غيهب الغسق
كأنها الكوكب الدري في الأفق
عندما نتأمل هذا البيت الرائع نعرف للوهلة الأولى أننا أمام صورة فنية بليغة، تظهر لنا لقاء حميما بين عاشقين، فقد جاءته من عذبه هواها ليلا على حين غرة، وحدد لنا الوقت من الليل وهو «غيهب الغسق» وهذا الوقت بالذات يشتد فيه ظلام الليل حيث لا ضياء إلا ضياء القمر والنجوم، وما إن ظهرت له محبوبته حتى أضاء بياض غرتها ما حولها وكأن الليل أصبح نهارا، وقد أتى هذا الشاعر بالشيء وضده، فذكر الظلام المدلهم والكوكب الدري وأكد لنا أن الليل ستر العاشقين، وأنه الوقت المناسب للقاء العشاق، فكاد يطير فرحا برؤيتها فقال لها بلهفة مشتاق وقلق عاشق:
فقلت شرفتني يا خير زائرة
أما خشيت من الحراس في الطرق
فرح هذا الشاعر بتشريف محبوبته له فهي أفضل من زاره وهذا تقدير عال منها له، ودليل قاطع يظهر حبها الكبير، لقد أسعدته بهذه الزيارة السارة والمفاجأة، في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، وبه من المخاطرة الشيء الكثير، ولا شك أن هذه الزيارة غير المتوقعة محفوفة بالمكاره، وتحتاج إلى جرأة ورباطة جأش، وقد حمل لنا هذا البيت في طياته سؤالا حائرا ومستحقا لا يخلو من القلق والحيرة مفاده خوفه الشديد عليها من حراس الطرق ليلا وهم «العسس» والمحب دائما يشفق على حبيبته خاصة أن هؤلاء الحراس مخصصون لهذه المهمة، متيقظين ليلا، يطوفون في كل مكان ولا ينامون طرفة عين، وقد أجابته على الفور وبلا تردد فقال هو على لسانها:
فجاوبتني ودمع العين يسبقها
من يركب البحر لا يخشى من الغرق
سبقت دموعها الإجابة، وأتت بحكمة مفادها أن من يركب البحر ويسير في أمواجه المتلاطمة، لا يخشى من الغرق، ومادامت تحبه فهي مستعدة للتضحية بنفسها من أجل هذا الحب، ولا شك أن الحب مثل البحر الهادر هناك من ينجو منه وهناك من تغرقه أمواجه، ومن هنا أقول إننا أمام عاشقين برحهما الشوق، فالتقيا على حين غرة، وقد صاغ لنا هذا اللقاء الرائع شعرا الوزير والأديب المصقع لسان الدين بن الخطيب واسمه: محمد بن عبدالله بن سعيد بن عبدالله السلماني ذو الوزارتين الأندلسي، ولد في «لوشة» غرب غرناطة سنة 713هجري، وهو علامة الأندلس في وقته، جمع بين الطب والسياسة والكتابة والفقه والشعر والمناصب الرفيعة، وهو صاحب أشهر موشح أندلسي على الإطلاق وفيه يقول:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
نشأ ابن الخطيب في غرناطة وتعلم بها، ثم ترقى في المناصب حتى أصبح وزيرا للغني بالله محمد بن أبو الحجاج يوسف، وبزغ نجمه واشتهر شهرة واسعة، فأوقع الوشاة والحساد بينه وبين الغني بالله ولفقوا له تهمة الزندقة والإلحاد كذبا وزورا، وهو منها براء، فسجن ظلما وعدوانا ثم خنق في سجنه رحمه الله بتدبير الوزير سليمان بن داود، فكتب الله له الشهادة، فأخرجت جثته من السجن وأحرقت «وهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها» فكانت وفاته سنة 776 للهجرة، ويحسب لهذا العلامة الكبير أولية اكتشاف عدوى الطاعون عبر الملابس، والاتصال المباشر بين المرضى والأصحاء قبل العالم الفرنسي «لويس باستور» ومن أهم مؤلفاته كتابه القيم «الإحاطة في أخبار غرناطة» وكتب كثيرة ذات قيمة عالية، وقد نقشت أشعاره على حوائط قصر الحمراء بغرناطة ولقب بذي الوزارتين: الأدب والسيف، وذكره ابن خلدون وأثنى عليه ووصفه بالشهيد، وكان صديقا له، ومن بديع شعره قوله:
أجلك أن يلم بك العتاب
وودك لا يداخله ارتياب
واستعدي علاك على اختصار
إذا ما عاد لي منك الجواب
وللإنصاف قسطاس قويم
يبين به من الخطأ الصوابأكتفي بهذا القدر، وأترككم في حفظ الله ورعايته.