هذا مثل يضرب لظهور الشرّين بينهما تفاوت، وبلاء أخف من بلاء، والدنيا دول يوم لك ويوم عليك، والإنسان عرضة للمصائب والمحن ولا ملجأ من الله تعالى إلا إليه.
روى الطبري في تاريخه أن الخارجي البرك بن عبدالله ضرب معاوية بن أبي سفيان بسيفه ليقتله فأصاب وركه وجرح إليته، فأحضر معاوية الطبيب فعاين الجرح وقال له: اختر واحدة من اثنتين، إما أن أكوي الجرح بالنار فتبرأ، أو أسقيك دواء يبرئك إلا أنه يقطع نسلك، فقال معاوية: لا طاقة لي بالنار، ولي في يزيد وعبدالله خلف، فأختار أهون الشرين، وسقي الشراب فبرئ، وبالعودة لشطر البيت عنوان الموضوع فقد بدأ بكلمة حنانيك، وهي تعبير لغوي معناه الاستعطاف الرقيق، والحنان بعد الحنان، والبيت كاملا:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وصاحبه طرفة بن العبد الوائلي «الغلام القتيل» وأحد أصحاب المعلقات، وطرفة لقب له وإنما اسمه (عمرو) وبيته يشير به إلى ملك الحيرة عمرو بن هند، وكان جبارا عاتيا، شديد الوطأة، وهو الذي أمر بقتل طرفة بعد أن هجاه، فحمل المسكين حتفه بيده إلى والي البحرين ظنا منه أنه أمر له بجائزة «ومن الكتب ما قتل» وقد اشتد حنق عمرو بن هند عليه بعد أن قال فيه:
فليت لنا مكان الملك عمرو
رغوثا حول قبتنا تخور
والرغوث الشاة أو البهيمة لا ترفع رأسها من المعلف، فقتله والي البحرين بهجر بعد أن سقي الخمر حتى ماتت مفاصله، وذهلت ذواهله، وأشار إلى عمرو بن هند قبل قتله فقال:
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي
ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
٭ وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال: إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا، وكان «المتلمس» خال طرفة قد نجا من القتل بعد أن فض صحيفة الملك وعرف ما فيها فرماها بالنهر وهرب إلى الشام، ولم يصغ طرفة لنصيحة خاله بفض كتابه وقال: لا يجرؤ علي الملك، فساقه قدره إلى الموت سوقا، فكانت الصحيفة مثلا لمن سار إلى الموت بقدمه.. ودمتم سالمين.