أشد أنواع الغربة وأكثرها إيلاما أن تشعر بالغربة في وطنك، الذي يساوي عندك دم الناظر، صحيح أن الغريب من فارق وطنه رغما عنه، إلا أن غربة الوطن شجن ما بعده شجن، وهمّ يطبق على خناقك، ربما روحت عن نفسك قليلا، إلا أن الهم يعاودك المرة تلو الأخرى، إنها وحشة ليس تشبهها وحشة، وأسى على أسى، هذا الشعور بات لا يفارقني في السنين الأخيرة، وربما شاركني الكثير من الناس هذا الشعور، فكيف تكون غريبا في وطن عشقت ترابه؟ وتعلمت فيه معنى الحياة، ولا حياة بلا وطن، فهو الدار والقرار والأمن والاستقرار، والشعار والدثار، لقد أصبح كل شيء في الكويت غريبا، حتى شوارعها لم أعد أعرفها بما في ذلك معالمها وأبراجها وبواباتها، كل ذلك لم يعد يؤثر بي، رغم أنها ذكريات جميلة، إلا أنها لم تعد تحرك فيّ ساكنا، فما أجمل الأمس بكل تفاصيله!
لقد تغيرت طباع الناس وبدأت قيمنا تتلاشى أدراج الرياح، حتى لهجتنا القديمة بعباراتها الرائعة لم أعد أسمعها، صرنا نسمع مفردات غريبة عجيبة لا تشم بحروفها رائحة الكويت، لم يعد الوطن مهماً، فكل يبحث عن شغل نفسه، لعب المال في النفوس حتى أصبح الهم الأكبر، ولا حياة لمن تنادي، وما خفي أعظم.
صارت الشتائم على مرأى ومسمع الجميع، وأصبح الدخول في تفاصيل أسرار الناس شطارة، وأصبحت المحاكم تعج بمثل هذه القضايا التي لم نكن نسمع عنها، هذا يشتم ذاك، وذاك يسب هذا، بجرأة زائدة وتماد، والحبل على الجرار، أو ليس ما نشاهده غربة وطن؟
ليتنا نرجع إلى قيمنا وثوابتنا وأخلاق أجدادنا التي وعينا عليها.
روى لي صديق أن رجلا كويتيا سجل في الشرطة فرفض، ثم سجل في الجيش فرفض أيضا، ففتح دكانا يسترزق منه، فدخل عليه الدكان يوما الشيخ عبدالله السالم، رحمه الله، وكان يتجول في السوق، فسأله: هل أنت كويتي؟ فقال: نعم، قال: لم لا تعمل في الحكومة؟ فأخبره الرجل أنه لم يقبل، فأخذ من المحل علبة سجائر واستخرج منها ورقة القصدير وكتب فيها بخطه رسالة إلى وزير الدفاع في ذلك الوقت، فذهب الرجل إلى وزارة الدفاع حاملا ورقة القصدير وقبل عسكريا، والرجل مازال حيا يرزق، واحتفظ بالورقة إلى اليوم، فما أجمل ما كنا عليه، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وأترككم في رعاية الله.