تذكرت خلال كتابتي لهذه المقالة مثلا شعبيا قديما نسيه الناس، يقول: «يا طبابة طبي جحرك» وهذا المثل يشبه إلى حد ما قول أبي منصور الفقيه: وغير تقي يأمر الناس بالتقى، طبيب يداوي الناس وهو عليل، فكيف لطبيب مريض أن يعالج الناس، يدعي الطب وهو خالي الوفاض منه، ففاقد الشيء لا يمكن له أن يعطيه.
والحق أننا في زمننا هذا صرنا نرى الأعاجيب، وليس للزمن دخل في تصرفاتنا وأخلاقنا لأن كل إناء ينضح بما فيه، والنشأة هي الفيصل في أخلاق المرء، من هنا أقول لكم إننا بتنا نرى مظاهر بلا جواهر، وقول بلا فعل، وبرق ورعد بلا مطر، كما أن الكذب فشا من أجل المظاهر، حتى أنه اصبح زينة يتزين بها بعض الناس، وحلية يتحلون بها، بعد أن كان الكذاب لا قيمة له بين الناس، وكان الصدق هو الزينة التي يتحلى به المرء، طبول جوفاء تسمع لها صوتا منكرا وهي من الداخل جوفاء وفارغة، فما أكثر هؤلاء الناس الذين ينصحون وهم أحوج ما يكونون إلى النصيحة، يأمرون بأمر لا يلتزمون به، ولله در أبو الأسود الدؤلي حيث يقول:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
كيما يصح به وأنت سقيم
لا تنه عن فعل وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
اليوم أيها السادة، كل يدعي الفهم لمحبة الظهور، لنقول له «أستاذ فهمان»، وهو خال من الفهم، يريد الظهور من اجل الظهور ولا مانع أن يكون منظّرا أو محللا أو ما شابه ذلك، فلا تغرنكم المظاهر الزائفة فعما قليل تنكشف الأمور، أفلا ترون معي أن هذا الأمر صار محيرا للغاية، بل وكثر وزاد، والحقيقة أن هذا الأمر المريب وهذه الظاهرة زادت وأصبحت منتشرة في كل مكان، فكيف يعظ الناس من هو محتاج للوعظ؟ أو ينصح الناس من هو بحاجة إلى النصيحة، كيف تنهى الناس عن أمور نهارا وتأتيها ليلا، كيف تأمر الناس بتقوى الله وأنت لست بتقي؟ وما أكثر من يجعل الدين ستارا له لبلوغ إربه، وهذا هو الآفة والداء العياء، هو يظن أنه سيفوز بما أراد ويصل إلى هدفه بهذه الطريقة، لكنه في النهاية سيكشف أمره، ويعرف الناس حقيقته ويمقتونه، فحبل الكذب قصير، والله تعالى بالمرصاد، والمؤمن فطن كيّس يرى بنور الله، لا تنطلي عليه حيل هؤلاء المرائين، فهل التظاهر بما ليس فيك يجعلك أفضل عند الناس؟ واهم من يظن ذلك، فما هكذا تورد الإبل يا سعد.