كل حب تطويه صفحة النسيان إلا الحب الأول، فهو حب فريد من نوعه، لا يشبهه حب، راسخ في الوجدان عالقا في الأذهان قوي البنيان، وعندما يتذكر المرء حبه الأول يظل مفكرا بما كان عليه من أيام خوال فيأرق ويقلق ويتمنى لو عادت تلك الأيام ولسان حاله يردد قول الشاعر:
يريد المرء أن يعطى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
فكيف يمكن للإنسان أن ينسى أو يتناسى أول من حرك مشاعره، وأول من خفق له قلبه، لا يمكن ذلك مهما تعاقبت على هذا الحب الأيام والليالي، فهو حب لا يموت إلا بموت صاحبه، يسير معك أينما سرت وتوجهت حتى وإن شغلتك الدنيا، ومن الأسية بمكان أن تسير سفن هذا الحب بما لا تشتهيه نفسك، ويحل فراق من أحببته رغما عنك، فيتفرق الأحبة، وقد يسأم المرء أشياء كثيرة في حياته ولكن الحب الأول لا يمكن نسيانه أو الملل منه، فهو غير قابل للسآمة ولا أبالغ إذا قلت إنه مثل النسيم للعليل، والماء البارد للغليل فيه جمال الدنيا وعذوبة الحياة، تشتاق إليه النفس كشوق الطيور إلى أعشاشها، يحن له القلب وتهش له النفس، وقد صدق الشاعر أبو تمام وأحسن حيث يقول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
إن من فارق حبيبه الأول رغما عنه ومر بتجارب عابرة، يشعر بالفرق الكبير بين هذا وذاك، فأين الثرى من الثريا ؟ فلا حيا الله البين أينما كان، وإني لأعجب ممن يقول إن الحب الأول خرافة، وفي هذا التشبيه تجني على كل من عاش هذه التجربة، ومع ذلك فهو رأي وعلينا احترام كل الآراء، ولا شك أن من لا يقر بالحب الأول لم يذق طعمه كما يجب، لأنه مجموعة من المشاعر زعزعت كيان المرء، وبه من الرقة والعذوبة الشيء الكثير، والنار لا تحرق إلا من وطأها بقدمه رجل، وما أجمل قول الأبله البغدادي:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
والسؤال المستحق هنا: لم لا ينسى المرء حبه الأول ؟ والإجابة عن هذا السؤال:
أن الحب الأول غالبا ما يكون عفويا وبريئا، وأن له أثرا كبيرا في تكوين شخصية المرء وطريقة تعامله مع الآخرين، وهي فترة مهمة في حياته، وكلما تقدم المرء في السن ازداد شوقا وحنينا إلى تلك الفترة التي تعد بالنسبة له أفضل أيام حياته، والسم الزعاف موت حبيبك الأول وأنت على ظهر هذه الدنيا، ودمتم سالمين.