هذا مثل شعبي يقال للجاحد، منكر المعروف قليل الأصل الذي لا يثمر فيه الطيب والمعروف والإحسان، وربما يكون الكثير من أبناء هذا الجيل لا يعرفون هذا المثل، لأنه يكاد أن يكون نسي وعفى عليه الزمن، والجاحد لا تكون فيه هذه الصفة فقط، وإنما يتبعها كثير من الصفات السيئة منها النذالة وسوء الخلق، ولاشك أن الكثير من الناس مروا بهذه التجربة المريرة، والعجيب في هذا الزمن أن منكري الإحسان أكثر من ذاكريه لأن القيم والثوابت والأخلاق التي جبلنا عليها بدأت تتلاشى، وهذا لا يعني انقطاع المعروف أو موت الخير في النفوس، فالخير فينا حتى تقوم الساعة، أخبرنا بذلك الصادق الأمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جربنا أناسا لم يثمر فيهم المعروف، وليتهم وقفوا عند خط نكران المعروف لهان الأمر، لكنهم زادوا على ذلك بالأذية لنا، فلا ذكروا معروفا ولا كفوا ألسنتهم عنا، خلافا لقول المولى عز وجل: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) «الرحمن- ٦٠». والتاريخ فيه حوادث كثيرة من هذا النوع، وقد بات من المألوف نكران المعروف، والمشهور في ذلك قول معن بن أوس المزني:
أعلمه الرماية كـل يـوم
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
ولما قال قافية هجاني
وروي أن النعمان بن المنذر كان قد طلب من مهندس رومي اسمه (سنمار) أن يبني له قصرا ليس له نظير في الدنيا، فاجتهد سنمار وظل يبنيه لسنين وكان ماهرا في صنعته فبنى للنعمان قصرا ليس له مثيل فأعجب النعمان إعجابا شديدا بالقصر وسماه «الخورنق»، وظل الناس يتعجبون من حسن بنائه، فصعد النعمان أعلى القصر ومعه سنمار وهو في غاية البهجة والسرور، فلما رأى سنمار إعجاب النعمان بالقصر قال له: لو علمت أنك توفيني حقي كاملا وتكرمني لبنيت لك قصرا يدور أينما تدور الشمس، فقال له النعمان: أو تستطيع أن تفعل ذلك؟ قال: نعم، فأمر النعمان برمي سنمار من أعلى القصر، خوفا أن يبني لغيره أفضل من قصره، فكان هذا جزاءه، فصارت قصته مثلا لكل من يقابل الإحسان بالجحود، وفي ذلك يقول عبدالعزى بن امرئ القيس الكلبي:
جزاني جزاه الله شر جزائه
جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة
يعلي عليه بالقراميد والسكب
وقال سليط بن سعد:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
وحسن فعل كما يجزى سنمار
من هنا نقول إن نكران الجميل والجحود من شيم اللئام، وكل من يوصف بهذه الصفة السيئة مريض نفسي، وقد قيل ان أسرع الذنوب عقوبة كفران المعروف، وإذا مات ضمير المرء ماتت أخلاقه، وليس معنى ذلك أن نزهد في المعروف وفعل الخير ومساعدة الناس، فجزاء ذلك عند الله الذي لا يضيع عنده شيء.