الوضع في ليبيا يشبه إلى حد كبير المشاهد الكثيرة والمتداخلة في فيلم «سيد الخواتم»، فالصراعات لا تنتهي، والتناحر هو سيد الموقف، إلا أن الفرق البسيط بين الفيلم الهوليوودي والواقع الليبي هو أن الفيلم يبرز بكل وضوح صراع الخير والشر، وفي ليبيا لا يعرف الأخيار من الأشرار، فالكل يصارع الكل، وكأننا أمام إحدى مباريات المصارعة، حيث الفوز لمن يستطيع البقاء في الحلبة، بعد أن يسهم في إجلاء الآخرين خارجها، لكن على الأقل فالمصارع الفائز سيفوز بلقب وبحزام وعقود دعايات والكثير من المعجبات، أما الفائز في التخبط بليبيا فلن يرث سوى شبه وطن، وحقد دفين، وأنانية مفرطة، وتطرف محكم، ولن يحكم سوى نفسه الأمارة بالسوء، وعقدته المتشظية في جبين الجهل، وغباءه المزمن في التحليل والتمحيص.
منذ سنوات وبالتحديد منذ قيام الثورة الشعبية في ليبيا ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي، تحمسنا جدا للحراك الشعبي والشبابي وأسلنا الكثير من الحبر في دعم ذلك التوجه والاختيار، لأسباب منطقية من وجهة نظرنا، أهمها ديكتاتورية العقيد واستئثاره بخيرات البلد، ونشره لأفكار في غاية الغرابة عن طريق مهزلة الكتاب الأخضر، وإقراره لنظام معقد وغريب يعتبر خليطا غير متجانس من التجارب وهو ما يصطلح عليه باللجان الشعبية، بالإضافة إلى أشياء أخرى مرتبطة بشخصيته المفعمة بالنرجسية والمفرطة في الأنا.
لكن سرعان ما راجعنا موقفنا من ذلك الحراك عندما شاهدنا بألم الوحشية التي قتل بها العقيد وأبنائه، ومنذ ذلك الحين وليبيا في شد جذب ما بين الميليشيات وجماعات مسلحة تتحكم في مفاصل الدولة، وتناحر قبلي يدعو إلى الانفصال، وجماعات متشددة تدعو إلى إقامة كيان إسلامي على النمط الأموي أو العباسي، وكتائب اللواء حفتر الداعية إلى توحيد ليبيا وتطهيرها من الميليشيات والجماعات المسلحة.
هذا كله نشط وتطور في ظل غياب سلطة مركزية تحظى بإجماع كل الليبيين، وفشل الحكومة الانتقالية في فرض الأمن على كامل التراب الليبي، مما شجع في تقسيم البلد إلى كتائب وفصائل من أجل خلق توازنات قائمة على أساس القوة، فهناك جماعات قبلية وأخرى فكرية، وأخرى تتبع أشخاصا ذوي نفوذ سياسي ومالي، وأخرى ذات مرجعية متطرفة وتعتمد على الغلو في الدين، وأمام هذا الوضع المربك فليبيا تسير بخطى واثقة في نسج النموذج العراقي في شمال أفريقيا وربما تصدير التطرف والمرتزقة إلى دول الجوار.
ولعل توالي الصراعات والضربات في مجتمعاتنا العربية، خصوصا التي تأثرت برياح الربيع العربي، تطرح أكثر من علامة استفهام وتعجب واستغراب، حول أوضاعها الحالية، والجواب هو أن غياب البديل الثوري قد شجع التخبط والاقتتال لأن عمق التغير يتطلب رؤية بديلة ومشروع دولة ونموذج واضح، وما حدث هو ثورة من أجل الفوضى، والأمثلة واضحـة وعديدة من الشرق إلى الغرب.
وبرجوعنا إلى الوضع في ليبيا فهو يزيد تفاقما وعتمة، فليبيا خرج فيها الوضع عن السيطرة، فالكل يحارب الكل والهدف الأساسي غير واضح، فمن سرق الثورة؟ ولربما هذا نتيجة من نتائج سياسة الجهل والكره والسيطرة التي رباها القذافي في أجيال عديدة من الليبيين. وبالنظر إلى هذا الوضع الكارثي في ليبيا فنحن نرى أن حل هذه الأزمة يتمثل في الرجوع إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذي يسمح بالمساعدة الخارجية لحماية المدنيين.
وكم نكره القول أن سيف الإسلام القذافي كان على حق عندما قال أن انهيار نظام القذافي لن يؤدي إلا إلى مجازر لا متناهية ما بين القبائل والجماعات، وهو ما صدق فيه القول.
لكن هذا لا يمنعنا من أن نتأمل في أن يسهم انتخاب رئيس مجلس النواب الجديد في ليبيا عقيلة صالح عيسى، في استقرار الأوضاع وخصوصا أنه نال إجماع النواب، وقد يستطيع أن يوفق ما بين رؤية الشارع ورؤية الوطن ويسهـم فـي استقــرار ليبيــا.
ما يحدث في ليبيا وللعرب عموما فيه الكثير من العبر لمن لا زال لم يعتبر. اللهم احفظ أمة العرب والمسلمين.
www.riyad-center.com