-
ما جئت لأكتب على «تورتة» عيد الدستور عبارات النفي السوداء ولكن جئت لأبارك.. ثم أنتحي جانبا أذرف دمعي بصمت دامع!
-
لوّنت حياتنا بكل جميل.. وبسطت على دروبنا سجاد الورد.. هي في الجمال.. في أعلى قمة.. هي القمر نفسه.. عن الشحرورة.. أتحدث
الرقص على جثة ميت
دون دعوة.. وبلا مراسم استقبال.. ولا ترحيب.. ومن غير استئذان، دخلت ولم أقرع الباب أو اضغط على الجرس..
اقتحمت فجأة حفل المحتفلين بـ «عيد ميلاد الدستور» السابع والأربعين..
جئت لا لأطفئ الشمعات السبع والأربعين بدموع حزني المكتنزة في مآقيَّ منذ يوم الميلاد قبل سبعة وأربعين عاما..
وما جئت لأكتب على «تورتة» العيد، عبارات النفي السوداء..
ولكن جئت لأبارك.. ثم انتحي جانبا أذرف دمعي بصمت دامع..
هل أنا الباكي الوحيد بين هؤلاء المحتفلين؟!
هل أنا المكسور والمكلوم والملعون والمنبوذ الوحيد؟!
هل أنا الوحيد المقصي عن خيمة الدستور التي ظللت أولئك المحتفلين كلهم عداي أنا؟!
أليس الدستور عدلا وعادلا.. قلبه يتسع للجميع دون تفرقة بين أسود وأبيض ورجل وامرأة وغني وفقير ومسلم ووثني؟!
اذن انا أحد هؤلاء فإن لم أكن أبيض.. فأنا أسود، وان لم أكن امرأة فأنا رجل.. وان لم أكن غنيا فأنا ـ اذن ـ فقير، وان لم اكن وثنيا فأنا مسلم..
ما دام الأمر كذلك.. فلماذا أقصى وحدي عن ظلال الدستور، ولا يشملني برعايته ورحمته وحمايته.. مثلما فعل مع القوم المحتفلين؟!
ام ان هؤلاء المحتفلين.. حالهم كحالي ولكنهم لا يعلمون؟!
يحتفلون بميت يظنونه مازال حيا ولا يعلمون انه مات وكفّن ولُحد وانه غدا مجرد حروف من تراب.. وماء من سراب..
ليت الذين احتفلوا بميلاد الدستور.. ونصبوا الزينات ودعوا الزفافات والزفانات والدقاقات والطقاقات.. وماسوا بقدودهم ومالوا بجذوعهم.. ليتهم التفتوا وتلفتوا بحثا عن هذا الدستور الذي يحتفلون بميلاده..
وليتهم جسوا نبضه للتأكد.. انه مازال حيا ينبض.. أم ان الموت أخرسه منذ زمن زمين، حينما اعتدى عليه اعضاء مجلس الأمة وخنقوه وهو مازال في المهد صبيا وقبل ان يبلغ الفطام..
ليتهم تداعوا لإقامة سرادق عزاء لهذا الدستور الذي توهموه حيا أو شبّه لهم ذلك.
أين هذا الدستور.. وقد صار الناس فرقا وشيعا، هذه ناجية وتلك هالكة؟
أين هذا الدستور.. وقد كُبّل الناس.. وقيّدت أياديهم.. وقطعت ألسنتهم.. وتم الحجر على آرائهم.. فما ان يتحدث احد أو يعبّر عن رأيه حتى يسعى اليه أراذل القوم يبغون دمه، وتتحقق لهم بغيتهم؟!
أين هذا الدستور وقد «نامت الروس وقامت العصاعص».. وصار الفساد هو الشعار الوحيد القابل للتصديق في بلاد الدستور الميت؟!
صحيح ان الدستور لا يمنع الفساد.. ولكنه يسعى لمنعه.. فاذا ما انتشر وتسيّد فإن هذا يعني ان الدستور ماء تبخّر.. ومجرد قصيدة ترثي ميتا..
اعذروني يا أيها المحتفلون.. فإن مشاعري تمنعني من الرقص على جثة ميت.
ذات القمم
تذوب بين عينيك وفي أذنيك.. لا في يدك ولا فمك..
أو هي ـ فعلا ـ ذابت في عيوننا وآذاننا.. ردحا من أزمنة متعاقبة..
لونت حياتنا بكل جميل.. وبسطت على دروبنا سجاد الورد..
هي في الجمال.. في أعلى قمة.. لم تنازعها امرأة على تلك القمة.. ولم تقل لها احداهن «قومي لأقعد مطرحك».. بل هي التي قالت ذلك للقمر..
انها «صباح» و«الصبوحة» و«الاسطورة»..
«شحرورة الوادي» التي غنت فأسكرت سامعيها..
مواويلها تفتت صخر الصوان.. وتذوّب القلوب..
و«اوفها» بألف «اوف» و«اوف»..
ورثت عن عمها «شحرور الوادي» صفته فأنثتها.. وفنّه فسيّرته خارج الضيعة ليلف الكرة الأرضية ويستقر في أسماع السامعين..
كانت قمرا على الأرض.. ومَن حولها نجوم تستمد ضياءها منها..
جارت على شبابها.. فجارت عليها شيخوختها..
تلك التي رسمت للورد فوحَه.. وللسماء صفاءها.. وللأرض طيب ترابها.. وبثت حزمة الجمال تلك في أسماعنا.. تعيش الآن في منعزل ومنحدر من الحياة..
وحدة.. وضنكا.. ومرضا.. وشيخوخة.. وذبولا..
تعاقب عليها الأزواج.. زوجا في اثر زوج.. ولم يخل بيتها يوما من رجل.. وما خلا فراشها من مؤنس شرعي..
لها من الدنيا.. ولد مهاجر.. وبنت أثقلت كاهلها وقوّست ظهرها وأفنت كل ما ملكته يدها..
صباح تلك.. هل ننساها.. ونتنكر لكل ما منحتنا بسخاء وابتسامة وجمال وأناقة؟!
فلنتذكرها في شيخوختها وتقوّس زمانها.. ونرد لها بعضا يسيرا مما منحتنا..
حاضنة أضواء ورسولة تنوير
المغنى حياة الروح يسمعها العليل تشفيه..
هكذا غنت أم كلثوم قبل اكثر من ستين عاما..
«والموسيقى غذاء الروح».. هكذا قال الفلاسفة والعلماء وأهل الفكر وهو ما نطقت به الحقائق.. وأثبتته الوقائع التي لا تقبل التكذيب.. مهما تقوّل المتقوّلون.. وتلسّن المتلسنون.. وهمهم المهمهمون..
والحياة.. منذ بدء الخليقة لم تخل من الموسيقى والغناء..
والحضارات التي قامت على الأرض منذ القديم خلدت موسيقاها وغناءها ودوّنت في مدوناتها.. قيمة هذه الفنون.
وسارت ركبان العرب وقوافلهم قديما.. على وقع الحداء والأهازيج..
ومخرت سفننا عباب البحر.. وولجت المحيط.. وغذاؤها في ذلك نهمات موجوعة.. ومواويل تشق غلظة البحر.. وتنهض الى السماء..
وفي الأعياد والأعراس.. وحتى في الحروب لم تكن الموسيقى أو الغناء.. غائبين، بل دونهما.. لا عيد.. ولا عرس.. ولا حرب.
تراثنا الغنائي كلأته عين رحيمة، ورعته يد كريمة..
فصار شلالا يهدر ويروّي نفوسنا العطشى.. فتعملق فنانونا وقادوا الأنغام المولّدة من ذلك التراث.. الى أسماعنا..
فصرنا أكثر قربا من ذلك التراث.. وأكثر التصاقا بوطننا..
«عبدالله فضالة» و«سعود الراشد» و«أحمد باقر» و«أحمد الزنجباري» و«حمد الرجيب» وجملة من العطور الموسيقية الكويتية الأخرى.. أغنت أسماعنا وهذبت نفوسنا وارتقت بذائقتنا السمعية الكويتية حقبتي الخمسينيات والستينيات.. وأسسوا للكويت الحديثة التي ملأت الأسماع.. وقادت سفينة الغناء في الخليج..
لم تبق يد فنية خليجية لم تطرق باب اذاعة الكويت.. للغناء في استديو الموسيقى فيها ومع فرقتها الموسيقية مستعينة بارشاد الفنانين الكويتيين.. مغنية ألحانهم.. أو شادية بكلمات شعرائهم.. حتى ان قوافل اهل الغناء جاءت من كل صوب عربي لتثبت حضورها ووجودها من خلال اذاعة الكويت.
ولو نصبتُ قائمة للأسماء ما كنت انتهيت.. أو كنت أقع تحت طائلة النسيان فتفر أسماء من الذاكرة ومن تلك القائمة.
ذلك مجد كويتي رسم على حائطة زمن جميل.. عقل كويتي مستنير أراد ان يجعل الكويت بؤرة اشعاع وحاضنة أضواء ورسولة تنوير.. تدخل الاسماع وتحل في العيون وتجذب الفراشات من مهاجعها الهوائية.
حينذاك.. كان الكويتي كثير الالتصاق بترابه.. وشديد الافتخار بانجاز وطنه
في الميادين كلها.. وكانت بلاده تحلق
بأجنحة عدة.. لا رقيب على طيرانها يقصقص أجنحتها.. أو يحدد لها اتجاهاتها وحدود ارتفاعها..
الكويت تلك.. من حقنا ان نحزن على رحيلها.. وسحق صورتها الجميلة وردمها تحت تراب الزمن ومحاولة العبث بالذاكرة لإخفاء ذلك البهاء الكويتي من ذاكرتنا المشدودة الى البهاء والنور والوطنية الصحيحة غير المتشنجة.. والمتعلقة بالحبال الصوتية ـ فقط لا غير!
لست أنسج على منوال الخيال.. خيمة وهمية لا عماد لها ولا رواق.. انما اسعى لاستعادة بعض ذلك الواقع البهي الذي يجهد الكثيرون لمحوه.. وكثيرون آخرون لا يعلمون بأنه كان في يوم من الأيام.. واقع الكويت وصورتها..
يظنون ان الكويت ولدت يوم ولدوا.. وانهم صنّاع الكويت وواشموها بوشمهم هم.. يقودونها الى حيث هم.. ولا يسعون اليها حيث هي..
الكويت تلك.. تنادي كل كويتي لأن يعيدها الى أرضها والى ان تعيش في قلوب أهلها..
فهل نعمل على استعادتها؟!